البحث الثالث : قرىء مثل بالرفع وحينئذ يكون وصفاً لقوله لحق ومثل وإن أضيف إلى المعرفة لا يخرجه عن جواز وصف المنكر به، تقول رأيت رجلاً مثل عمرو، لأنه لا يفيده تعريفاً لأنه في غاية الإبهام وقرىء :﴿مِّثْلَ﴾ بالنصب، ويحتمل وجهين. أحدهما : أن يكون مفتوحاً لإضافته إلى ما هو ضعيف وإلا جاز أن يقال زيد قاتل من يعرفه أو ضارب من يشتمه. ثانيهما : أن يكون / منصوباً على البيان تقديره لحق حقاً مثل، ويحتمل أن يقال إنه منصوب على أنه صفة مصدر معلوم غير مذكور، ووجهه أنا دللنا أن المراد من الضمير في قوله :﴿إِنَّه ﴾ هو القرآن فكأنه قال إن القرآن لحق نطق به الملك نطقاً ﴿مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ﴾ وما مجرور لا شك فيه.
ثم قال تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٧٦
١٧٧
إشارة إلى تسلية قلب النبي صلى الله عليه وسلّم ببيان أن غيره من الأنبياء عليهم السلام كان مثله، واختار إبراهيم لكونه شيخ المرسلين كون النبي عليه الصلاة والسلام على سنته في بعض الأشياء، وإنذار لقومه بما جرى من الضيف، ومن إنزال الحجارة على المذنبين المضلين، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إذا كان المراد ما ذكرت من التسلية والإنذار فأي فائدة في حكاية الضيافة ؟
نقول ليكون ذلك إشارة إلى الفرج في حق الأنبياء، والبلاء على الجهلة والأغبياء، إذا جاءهم من حيث لا يحتسب. قال الله تعالى :﴿فَأَتَـاـاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ﴾ (الحشر : ٢) فلم يكن عند إبراهيم عليه السلام خبر من إنزال العذاب مع ارتفاع مكانته.
المسألة الثانية : كيف سماهم ضيفاً ولم يكونوا ؟
نقول لما حسبهم إبراهيم عليه السلام ضيفاً لم يكذبه الله تعالى في حسابه إكراماً له، يقال في كلمات المحققين الصادق يكون ما يقول، والصديق يقول ما يكون.
المسألة الثالثة : ضيف لفظ واحد والمكرمين جمع، فكيف وصف الواحد بالجمع ؟
نقول الضيف يقع على القوم، يقال قوم ضيف ولأنه مصدر فيكون كلفظ الرزق مصدراً، وإنما وصفهم بالمكرمين إما لكونهم عباداً مكرمين كما قال تعالى :﴿بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ﴾ (الأنبياء : ٢٦) وإما لإكرام إبراهيم عليه السلام إياهم، فإن قيل : بماذا أكرمهم ؟
قلنا ببشاشة الوجه أولاً، وبالإجلاس في أحسن المواضع وألطفها ثانياً، وتعجيل القرى ثالثاً، وبعد التكليف للضيف بالأكل والجلوس وكانوا عدة من الملائكة في قول ثلاثة جبريل وميكائيل وثالث، وفي قول عشرة، وفي آخر اثنا عشرة.
المسألة الرابعة : هم أرسلوا للعذاب بدليل قولهم :﴿إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ﴾ (الذاريات : ٣٢) وهم لم يكونوا من قوم إبراهيم عليه السلام، وإنما كانوا من قوم لوط فما الحكمة في مجيئهم إلى إبراهيم عليه السلام ؟
نقول فيه حكمة بالغة، وبيانها من وجهين. أحدهما : أن إبراهيم عليه السلام شيخ المرسلين وكان لوط من قومه ومن إكرام الملك للذي في عهدته وتحت طاعته إذا كان يرسل رسول إلى غيره يقول له اعبر على فلان الملك وأخبره برسالتك وخذ فيها رأيه. وثانيهما : هو أن / الله تعالى لما قدر أن يهلك قوماً كثيراً وجماً غفيراً، وكان ذلك مما يحزن إبراهيم عليه السلام شفقة منه على عباده قال لهم بشروه بغلام يخرج من صلبه أضعاف ما يهلك، ويكون من صلبه خروج الأنبياء عليهم السلام. ثم قال تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٧٧
١٧٧
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ما العامل في إذ ؟
فيه وجوه. أحدها : ما في المكرمين من الإشارة إلى الفعل إن قلنا وصفهم بكونهم مكرمين بناء على أن إبراهيم عليه السلام أكرمهم فيكون كأنه تعالى يقول : أكرموا إذ دخلوا، وهذا من شأن الكريم أن يكرم ضيفه وقت الدخول. ثانيها : ما في الضيف من الدلالة على الفعل، لأنا قلنا إن الضيف مصدر فيكون كأنه يقول : أضافهم إذ دخلوا. وثالثها : يحتمل أن يكون العامل فيه أتاك تقديره ما أتاك حديثهم وقت دخولهم، فاسمع الآن ذلك، لأن هل ليس للاستفهام في هذا الموضع حقيقة بل للإعلام، وهذا أولى لأنه فعل مصرّح به، ويحتمل أن يقال اذكر إذ دخلوا.
المسألة الثانية : لماذا اختلف إعراب السلامين في القراءة المشهورة ؟
نقول : نبين أولاً وجوه النصب والرفع، ثم نبيّن وجوه الاختلاف في الإعراب، أما النصب فيحتمل وجوهاً :
أحدها : أن يكون المراد من السلام هو التحية وهو المشهور، ونصبه حينئذ على المصدر تقديره نسلم سلاماً. ثانيها : هو أن يكون السلام نوعاً من أنواع الكلام وهو كلام سلم به المتكلم من أن يلغو أو يأثم فكأنهم لما دخلوا عليه فقالوا حسناً سلموا من الإثم، وحينئذ يكون مفعولاً للقول لأن مفعول القول هو الكلام، يقال قال فلان كلاماً، ولا يكون هذا من باب ضربه سوطاً لأن المضروب هناك ليس هو السوط، وههنا القول هو الكلام فسره قوله تعالى :﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَـاهِلُونَ قَالُوا سَلَـامًا﴾ (الفرقان : ٦٣) وقوله تعالى :﴿قِيلا سَلَـامًا سَلَـامًا﴾ (الواقعة : ٢١).


الصفحة التالية
Icon