وفي الآية خلاف. قيل : هو ماء أسود منتن انشقت أرضهم وخرج منها ذلك، وقيل : حجارة مرمية في ديارهم وهي بين الشام والحجاز، وقوله :﴿لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الالِيمَ﴾ أي المنتفع بها هو الخائف، كما قال تعالى :﴿لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (العنكبوت : ٤٥) في سورة العنكبوت، وبينهما في اللفظ فرق قال ههنا :﴿ءَايَةً﴾ وقال هناك :﴿بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ﴾ وقال هناك :﴿لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ وقال ههنا :﴿لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ﴾ فهل في المعنى فرق ؟
نقول هناك مذكور بأبلغ وجه يدل عليه قوله تعالى :﴿بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ﴾ حيث وصفها بالظهور، وكذلك منها وفيها فإن من للتبعيض، فكأنه تعالى قال : من نفسها لكم آية باقية، وكذلك قال :﴿لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ فإن العاقل أعم من الخائف، فكانت الآية هناك أظهر، وسببه ما ذكرنا أن القصد هناك تخويف القوم، وههنا تسلية القلب ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الذاريات : ٣٥، ٣٦) وقال هناك :﴿إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ﴾ (العنكبوت : ٣٣) من غير بيان وافٍ بنجاة المسلمين والمؤمنين بأسرهم. / ثم قال تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٨٢
١٨٣
قوله :﴿وَفِى مُوسَى ﴾ يحتمل أن يكون معطوفاً على معلوم، ويحتمل أن يكون معطوفاً على مذكور، أما الأول ففيه وجوه. الأول : أن يكون المراد ذلك في إبراهيم وفي موسى، لأن من ذكر إبراهيم يعلم ذلك. الثاني : لقوم في لوط وقومه عبرة، وفي موسى وفرعون. الثالث : أن يكون هناك معنى قوله تعالى : تفكروا في إبراهيم ولوط وقومهما، وفي موسى وفرعون، والكل قريب بعضه من بعض، وأما الثاني ففيه أيضاً وجوه. أحدها : أنه عطف على قوله :﴿وَفِى الارْضِ ءَايَـاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ﴾ (الذاريات : ٢٠)، ﴿وَفِى مُوسَى ﴾ وهو بعيد لبعده في الذكر، ولعدم المناسبة بينهما. ثانيها : أنه عطف على قوله :﴿وَتَرَكْنَا فِيهَآ ءَايَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ﴾ (الذاريات : ٣٧)، ﴿وَفِى مُوسَى ﴾ أي وجعلنا في موسى على طريقة قولهم : علفتها تبناً وماءً بارداً، وتقلدت سيفاً ورمحاً، وهو أقرب، ولا يخلو عن تعسف إذا قلنا بما قال به بعض المفسرين إن الضمير في قوله تعالى :﴿وَتَرَكْنَا فِيهَآ﴾ عائد إلى القرية. ثالثها : أن نقول فيها راجع إلى الحكاية، فيكون التقدير : وتركنا في حكايتهم آية أو في قصتهم، فيكون : وفي قصة موسى آية، وهو قريب من الاحتمال الأول، وهو العطف على المعلوم. رابعها : أن يكون عطفاً على ﴿هَلْ أَتَـاـاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ﴾ (الذاريات : ٢٤) وتقديره : وفي موسى حديث إذ أرسلناه، وهو مناسب إذ جمع الله كثيراً من ذكر إبراهيم وموسى عليهما السلام، كما قال تعالى :﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى ﴾ (النجم : ٣٦) وقال تعالى :﴿صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾ (الأعلى : ١٩) والسلطان القوة بالحجة والبرهان، والمبين الفارق، وقد ذكرنا أنه يحتمل أن يكون المراد منه ما كان معه من البراهين القاطعة التي حاج بها فرعون، ويحتمل أن يكون المراد المعجز الفارق بين سحر الساحر وأمر المسلمين.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٨٣
١٨٤
قوله تعالى :﴿فَتَوَلَّى بِرُكْنِه ﴾ فيه وجوه. الأول : الباء للمصاحبة، والركن إشارة إلى القوم كأنه تعالى يقول : أعرض مع قومه، يقال نزل فلان بعسكره على كذا، ويدل على هذا الوجه قوله تعالى :﴿فَأَرَاـاهُ الايَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ﴾ (النازعات : ٢٠ ـ ٢٢) قال :﴿أَدْبَرَ﴾ وهو بمعنى تولى وقوله :﴿فَحَشَرَ فَنَادَى ﴾ (النازعات : ٢٣) وفي معنى قوله تعالى :﴿بِرُكْنِه ﴾. الثاني :﴿فَتَوَلَّى ﴾ أي اتخذ ولياً، والباء للتعدية حينئذ يعني تقوى بجنده. والثالث : تولى أمر موسى بقوته، كأنه قال : أقتل موسى لئلا يبدل دينكم، ولا يظهر في الأرض الفساد، فتولى أمره بنفسه، وحينئذ يكون المفعول غير مذكور، وركنه هو نفسه القوية، ويحتمل أن يكون المراد من ركنه هامان، فإنه كان وزيره، وعلى هذا الوجه الثاني أظهر.
﴿وَقَالَ سَـاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ﴾ أي هذا ساحر أو مجنون، وقوله :﴿سَـاحِرٌ﴾ أي يأتي الجن بسحره / أو يقرب منهم، والجن يقربون منه ويقصدونه إن كان هو لا يقصدهم، فالساحر والمجنون كلاهما أمره مع الجن، غير أن الساحر يأتيهم باختياره، والمجنون يأتونه من غير اختياره، فكأنه أراد صيانة كلامه عن الكذب فقال هو يسحر الجن أو يسحر، فإن كان ليس عنده منه خبر، ولا يقصد ذلك فالجن يأتونه، ثم قال تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٨٤
١٨٥


الصفحة التالية
Icon