وفيه أيضاً لطائف. إحداها : أن الله تعالى بيّن عظمته بقوله :﴿وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَـاهَا﴾ ﴿وَالارْضَ فَرَشْنَـاهَا﴾ وهيبته بقوله :﴿فَنَبَذْنَـاهُمْ فِى الْيَمِّ﴾ (القصص : ٤٠) وقوله تعالى :﴿أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾ (الذاريات : ٤٨) وقوله :﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّـاعِقَةُ﴾ (النسا : ١٥٣) وفيه إشارة إلى أنه تعالى إذا عذب قدر على أن يعذب بما به البقاء والوجود وهو التراب والماء والهواء والنار، فحكايات لوط تدل على أن التراب الذي منه الوجود والبقاء إذا أراد الله جعله سبب الفناء والماء كذلك في قوم فرعون والهواء في عاد والنار في ثمود، ولعلّ ترتيب الحكايات الأربع للترتيب الذي في العناصر الأربعة وقد ذكرنا في سورة العنكبوت شيئاً منه، ثم إذا أبان عظمته وهيبته قال لرسوله عرفهم الحال وقل أنا رسول بتقديم الآيات وسرد الحكايات فلإردافه بذكر الرسول فائدة. ثانيها : في الرسالة أمور ثلاثة المرسل والرسول والمرسل إليه وههنا ذكر الكل، فقوله :﴿لَكُم﴾ إشارة إلى المرسل إليهم وقوله :﴿مِّنْهُ﴾ إشارة إلى المرسل وقوله :﴿نَذِيرٌ﴾ بيان للرسول، وقدم المرسل إليه في الذكر، لأن المرسل إليه أدخل في أمر الرسالة / لأن عنده يتم الأمر، والملك لو لم يكن هناك من يخالفه أو يوافقه فيرسل إليه نذيراً أو بشيراً لا يرسل وإن كان ملكاً عظيماً، وإذا حصل المخالف أو الموافق يرسل وإن كان غير عظيم/ ثم المرسل لأنه متعين وهو الباعث، وأما الرسول فباختياره، ولولا المرسل المتعين لما تمت الرسالة، وأما الرسول فلا يتعين، لأن للملك اختيار من يشاء من عباده، فقال :﴿مِّنْهُ﴾ ثم قال :﴿نَذِيرٌ﴾ تأخيراً للرسول عن المرسل. ثالثها : قوله :﴿مُّبِينٍ﴾ إشارة إلى ما به تعرف الرسالة، لأن كل حادث له سبب وعلامة، فالرسول هو الذي به تتم الرسالة، ولا بد له من علامة يعرف به، فقوله : فقوله :﴿مُّبِينٍ﴾ إشارة إليها وهي إما البرهان والمعجزة.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٨٨
ثم قال تعالى :﴿وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ ﴾ إتماماً للتوحيد، وذلك لأن التوحيد بين التعطيل والتشريك، وطريقة التوحيد هي الطريقة، فالمعطل يقول لا إله أصلاً، والمشرك يقول في الوجود آلهة، والموحد يقول قوله الاثنين باطل، نفي الواحد باطل، فقوله تعالى :﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّه ﴾ (الذاريات : ٥٠) أثبت وجود الله، ولما قال :﴿وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ ﴾ نفى الأكثر من الواحد فصح التوحيد بالآيتين، ولهذا قال مرتين :﴿إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أي في المقامين والموضعين، وقد ذكرنا مراراً أن المعطل إذا قال لا واجب يجعل الكل ممكناً، فإن كل موجود ممكن، ولكن الله في الحقيقة موجود، فقد جعله في تضاعيف قوله كالممكنات فقد أشرك، وجعل الله كغيره، والمشرك لما قال بأن غيره إله يلزم من قوله نفي كون الإله إلهاً لما ذكرنا في تقرير دلالة التمانع مع أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله للزم عجز كل واحد، فلا يكون في الوجود إله أصلاً، فيكون ناقياً للإلهية، فيكون معطلاً، فالمعطل مشرك، والمشرك معطل، وكل واحد من الفريقين معترف بأن اسمه مبطل، لكنه هو على مذهب خصمه يقول إنه نفسه مبطل وهو لا يعلم، والحمد لله الذي هدانا، وقوله ﴿وَلا تَجْعَلُوا ﴾ فيه لطيفة، وهي أنه إشارة إلى أن الآلهة مجعولة، لا يقال فالله متخذ لقوله ﴿فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا﴾ (المزمل : ٩) قلنا الجواب : عنه الظاهر، وقد سبق في قوله تعالى :﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ ءَالِهَةً﴾ (مريم : ٨١).
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٨٨


الصفحة التالية
Icon