المسألة الثانية : ما الحكمة في اختيار هذه الأشياء ؟
نقول هي تحتمل وجوهاً : أحدها : إن الأماكن الثلاثة وهي : الطور، والبيت المعمور، والبحر المسجور، أماكن كانت لثلاثة أنبياء ينفردون فيها للخلوة بربهم والخلاص من الخلق والخطاب مع الله، أما الطور فانتقل إليه موسى /عليه السلام، والبيت محمد صلى الله عليه وسلّم، والبحر المسجور يونس عليه السلام، والكل خاطبوا الله هناك فقال موسى :﴿أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآا إِنْ هِىَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِى مَن تَشَآءُ ﴾ (الأعراف : ١٥٥) وقال :﴿أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ ﴾ (الأعراف : ١٤٣) وأما محمد صلى الله عليه وسلّم فقال :"السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك" وأما يونس فقال :﴿لا إِلَـاهَ إِلا أَنتَ سُبْحَـانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ﴾ (الأنبياء : ٨٧) فصارت الأماكن شريفة بهذه الأسباب، فحلف الله تعالى بها، وأما ذكر الكتاب فإن الأنبياء كان لهم في هذه الأماكن مع الله تعالى كلام والكلام في الكتاب واقترانه بالطور أدل على ذلك، لأن موسى عليه السلام كان له مكتوب ينزل عليه وهو بالطور، وأما ذكر السقف المرفوع ومعه البيت المعمور ليعلم عظمة شأن محمد صلى الله عليه وسلّم ثانيها : وهو أن القسم لما كان على وقوع العذاب وعلى أنه لا دافع له، وذلك لأن لا مهرب من عذاب الله لأن من يريد دفع العذاب عن نفسه، ففي بعض الأوقات يتحصن بمثل الجبال الشاهقة التي ليس لها طرف وهي متضايقة بين أنه لا ينفع التحصن بها من أمر الله تعالى كما قال ابن نوح عليه السلام ﴿سَـاَاوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَآءِا قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَن رَّحِمَ ﴾ (هود : ٤٣) حكاية عن نوح عليه السلام.
المسألة الثالثة : ما الحكمة في تنكير الكتاب وتعريف باقي الأشياء ؟
نقول ما يحتمل الخفاء من الأمور الملتبسة بأمثالها من الأجناس يعرف باللام، فيقال رأيت الأمير ودخلت على الوزير، فإذا بلغ الأمير الشهرة بحيث يؤمن الالتباس مع شهرته، ويريد الواصف وصفه بالعظمة، يقول : اليوم رأيت أميراً ما له نظير جالساً وعليه سيما الملوك وأنت تريد ذلك الأمير المعلوم، والسبب فيه أنك بالتنكير تشير إلى أنه خرج عن أن يعلم ويعرف بكنه عظمته، فيكون كقوله تعالى :﴿الْحَآقَّةُ * مَا الْحَآقَّةُ * وَمَآ أَدْرَاـاكَ مَا الْحَآقَّةُ﴾ (الحاقة : ١، ٣) فاللام وإن كانت معرفة لكن أخرجها عن المعرفة كون شدة هولها غير معروف، فكذلك ههنا الطور ليس في الشهرة بحيث يؤمن اللبس عند التنكير، وكذلك البيت المعمور، وأما الكتاب الكريم فقد تميز عن سائر الكتب، بحيث لا يسبق إلى أفهام السامعين من النبي صلى الله عليه وسلّم لفظ الكتاب إلا ذلك، فلما أمن اللبس وحصلت فائدة التعريف سواء ذكر باللام أو لم يذكر قصداً للفائدة الأخرى وهي في الذكر بالتنكير، وفي تلك الأشياء لما لم تحصل فائدة التعريف إلا بآلة التعريف استعملها، وهذا يؤيد كون المراد منه القرآن وكذلك اللوح المحفوظ مشهور.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٩٨
المسألة الرابعة : ما الفائدة في قوله تعالى :﴿فِى رَقٍّ مَّنشُورٍ﴾ وعظمة الكتاب بلفظه ومعناه لا بخطه ورقه ؟
نقول هو إشارة إلى الوضوح، وذلك لأن الكتاب المطوي لا يعلم ما فيه فقال هو في رق منشور وليس كالكتب المطوية وعلى هذا المراد اللوح المحفوظ فمعناه هو منشور لكم لا يمنعكم أحد من مطالعته، وإن قلنا بأن المراد كتاب أعمال كل أحد فالتنكير لعدم المعرفة بعينه وفي رق منشور لبيان وصفه كما قال تعالى :﴿كِتَـابًا يَلْقَـاـاهُ مَنشُورًا﴾ (الإسراء : ١٣) وذلك لأن غير المعروف إذا /وصف كان إلى المعرفة أقرب شبهاً.
المسألة الخامسة : في بعض السور أقسم بجموع كما في قوله تعالى :﴿وَالذَّارِيَـاتِ﴾ وقوله ﴿وَالْمُرْسَلَـاتِ﴾ وقوله ﴿وَالنَّـازِعَـاتِ﴾ وفي بعضها بأفراد كما في هذه السورة حيث قال :﴿وَالطُّورِ﴾ ولم يقل والأطوار والبحار، ولا سيما إذا قلنا المراد من الطور الجبل العظيم كالطود، كما في قوله تعالى :﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ﴾ (النساء : ١٥٤) أي الجبل فما الحكمة فيه ؟
نقول في الجموع في أكثرها أقسم بالمتحركات والريح الواحدة ليست بثابتة مستمرة حتى يقع القسم بها، بل هي متبدلة بأفرادها مستمرة بأنواعها والمقصود منها لا يحصل إلا بالتبدل والتغير فقال :﴿وَالذَّارِيَـاتِ﴾ إشارة إلى النوع المستمر إلى الفرد المعين المستقر، وأما الجبل فهو ثابت قليل التغير والواحد من الجبال دائم زماناً ودهراً، فأقسم في ذلك بالواحد وكذلك قوله ﴿وَالنَّجْمِ﴾ والريح ما علم القسم به وفي الطور علم.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٩٨


الصفحة التالية
Icon