أما المعنوية فنقول قوله تعالى :﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ﴾ يدل على أن خزنتها يقذفونهم فيها وهم بعداء عنها، وقال تعالى :﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ﴾ (القمر : ٤٨) نقول الجواب عنه من وجوه أحدها : أن الملائكة يسحبونهم في النار ثم إذا قربوا من نار مخصوصة هي نار جهنم يقذفونهم فيها من بعيد فيكون السحب في النار والدفع في نار أشد وأقوى، ويدل عليه قوله تعالى :﴿يُسْحَبُونَ * فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ﴾ (غافر : ٧١، ٧٢) أي يكون لهم سحب في حموة النار ثم بعد ذلك يكون لهم إدخال الثاني : جاز أن يكون في كل زمان يتولى أمرهم ملائكة، فإلى النار يدفعهم ملك وفي النار يسحبهم آخر.
الثالث : جاز أن يكون السحب بسلاسل يسحبون في النار والساحب خارج النار.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٩٨
الرابع : يحتمل أن يكون الملائكة يدفعون أهل النار إلى النار إهانة واستخفافاً بهم، ثم يدخلون معهم النار ويسحبونهم فيها.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٩٨
ثم قال تعالى :﴿هَـاذِهِ النَّارُ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ على تقدير قال.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٩٨
ثم قال تعالى :﴿أَفَسِحْرٌ هَـاذَآ أَمْ أَنتُمْ لا تُبْصِرُونَ﴾ تحقيقاً للأمر، وذلك لأن من يرى شيئاً ولا يكون الأمر على ما يراه، فذلك الخطأ يكون لأجل أحد أمرين إما لأمر عائد إلى المرئي وإما لأمر عائد إلى الرائي فقوله ﴿أَفَسِحْرٌ هَـاذَآ﴾ أي هل في المرئي شك أم هل في بصركم خلل ؟
استفهام إنكار، أي لا واحد منها ثابت، فالذي ترونه حق وقد كنتم تقولون إنه ليس بحق، وإنما قال :﴿أَفَسِحْرٌ﴾ وذلك أنهم كانوا ينسبون المرئيات إلى السحر فكانوا يقولون بأن انشقاق لقمر وأمثاله سحر وفي ذلك اليوم لما تعلق بهم مع البصر الألم المدرك بحس اللمس وبلغ الإيلام الغاية لم يمكنهم أن يقولوا هذا سحر، وإلا لما صح منهم طلب الخلاص من النار.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٩٨
ثم قال تعالى :﴿اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَآءٌ عَلَيْكُم إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي إذا لم يمكنكم إنكارها وتحقق أنه ليس بسحر ولا خلل في أبصاركم فاصلوها. وقوله تعالى :﴿فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا ﴾ فيه فائدتان إحداهما : بيان عدم الخلاص وانتفاء المناص فإن من لا يصبر يدفع الشيء عن نفسه إما بأن يدفع المعذب فيمنعه وإما بأن يغضبه فيقتله ويريحه ولا شيء من ذلك يفيد في عذاب الآخرة فإن من لا يغلب المعذب فيدفعه ولا يتلخص بالإعدام فإنه لا يقضي عليه فيموت، فإذن الصبر كعدمه، لأن من يصبر يدوم فيه، ومن لا يصبر يدوم فيه الثانية : بيان ما يتفاوت به عذاب الآخرة عن عذاب الدنيا، فإن المعذب في الدنيا إن صبر ربما انتفع بالصبر إما بالجزاء في الآخرة، وإما بالحمد في الدنيا، فيقال له ما أشجعه وما أقوى قلبه، وإن جزع يذم، فيقال يجزع كالصبيان والنسوان، وأما في الآخرة لا مدح ولا ثواب على الصبر، وقوله تعالى :﴿سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ ﴾ ﴿سَوَآءٌ﴾ خبر، ومبتدأه مدلول عليه بقوله ﴿فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا ﴾ كأنه يقول : الصبر وعدمه سواء، فإن قيل يلزم الزيادة في التعذيب، ويلزم التعذيب على المنوي الذي لم يفعله، نقول فيه لطيفة، وهي أن المؤمن بإيمانه استفاد أن الخير الذي ينويه يثاب عليه، والشر الذي ينويه ولا يحققه لا يعاقب عليه، والكافر بكفره صار على الضد، فالخير الذي ينويه ولا يعمله لا يثاب عليه، والشر الذي يقصده ولا يقع منه يعاقب عليه ولا ظلم، فإن الله تعالى أخبره به، وهو اختار ذلك ودخل فيه باختياره، كأن الله تعالى قال : فإن من كفر ومات كافراً أعذبه أبداً فاحذروا، ومن آمن أثيبه دائماً، فمن ارتكب الكفر ودام عليه بعد ما سمع ذلك، فإذا عاقبه المعاقب دائماً تحقيقاً لما أوعده به لا يكون ظالماً.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٩٨
ثم قال تعالى :﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـاتٍ وَنَعِيمٍ﴾ على ما هو عادة القرآن من بيان حال المؤمن /بعد بيان حال الكافر، وذكر الثواب عقيب ذكر العقاب ليتم أمر الترهيب والترغيب، وقد ذكرنا تفسير المتقين في مواضع، والجنة وإن كانت موضع السرور، لكن الناطور قد يكون في البستان الذي هو غاية الطيبة وهو غير متنعم، فقوله ﴿وَنَعِيمٍ﴾ يفيد أنهم فيها يتنعمون، كما يكون المتفرج لا كما يكون الناطور.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٩٨


الصفحة التالية
Icon