اللطيفة الثانية : لما قال :﴿ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَـاهُم﴾ ونفي النقصان يصدق بحصول المساوي، فقال ليس عدم النقصان بالاقتصار على المساوي، بطريق آخر وهو الزيادة والإمداد، فإن قيل أكثر الله من ذكر الأكل والشرب، وبعض العارفين يقولون لخاصة الله بالله شغل شاغل عن الأكل والشرب وكل ما سوى الله، نقول هذا على العمل، ولهذا قال تعالى :﴿جَزَآءَا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الواقعة : ٢٤) وقال :﴿بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (الطور : ١٦) وأما على العلم بذلك فذلك، ولهذا قال :﴿لَهُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ * سَلَـامٌ قَوْلا مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ﴾ أي للنفوس ما تتفكه به، وللأرواح ما تتمناه من القربة والزلفى.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٩٨
وقوله تعالى :﴿يَتَنَـازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا﴾ فيكون ذلك على عادة الملوك إذا جلسوا في مجالسهم للشرب يدخل عليهم بفواكه ولحوم وهم على الشرب، وقوله تعالى :﴿يَتَنَـازَعُونَ﴾ أي يتعاطون ويحتمل أن يقال التنازع التجاذب وحينئذ يكون تجاذبهم تجاذب ملاعبة لا تجاذب منازعة، وفيه نوع لذة وهو بيان ما هو عليه حال الشراب في الدنيا فإنهم يتفاخرون بكثرة الشرب ولا يتفاخرون بكثرة الأكل، ولهذا إذا شرب أحدهم يرى الآخر واجباً أن يشرب مثل ما شربه حريفه ولا يرى واجباً أن يأكل مثل ما أكل نديمه وجليسه.
وقوله تعالى :﴿لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ﴾ وسواء قلنا ﴿فِيهَا﴾ عائدة إلى الجنة أو إلى الكأس فذكرهما /لجريان ذكر الشراب وحكايته على ما في الدنيا، فقال تعالى ليس في الشرب في الآخرة كل ما فيه في الدنيا من اللغو بسبب زوال العقل ومن التأثيم الذي بسبب نهوض الشهوة والغضب عند وفور العقل والفهم، وفيه وجه ثالث، وهو أن يقال لا يعتريه كما يعتري الشارب بالشرب في الدنيا فلا يؤثم أي لا ينسب إلى إثم، وفيه وجه رابع، وهو أن يكون المراد من التأثيم السكر، وحينئذ يكون فيه ترتيب حسن وذلك لأن من الناس من يسكر ويكون رزين العقل عديم اعتياد العربدة فيسكن وينام ولا يؤذي ولا يتأذى ولا يهذي ولا يسمع إلى من هذى، ومنهم من يعربد فقال :﴿لا لَغْوٌ فِيهَا﴾.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٩٨
أي بالكؤوس وقال تعالى :﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ﴾ (الواقعة : ١٧، ١٨) وقوله ﴿لَهُمْ﴾ أي ملكهم إعلاماً لهم بقدرتهم على التصرف فيهم بالأمر والنهي والاستخدام وهذا هو المشهور ويحتمل وجهاً آخر وهو أنه تعالى لما بيّن امتياز خمر الآخرة عن خمر الدنيا بين امتياز غلمان الآخرة عن غلمان الدنيا، فإن الغلمان في الدنيا إذا طافوا على السادة الملوك يطوفون عليهم لحظ أنفسهم إما لتوقع النفع أو لتوفر الصفح، وأما في الآخرة فطوفهم عليهم متمخض لهم ولنفعهم ولا حاجة لهم إليهم والغلام الذي هذا شأنه له مزية على غيره وربما يبلغ درجة الأولاد. وقوله تعالى :﴿كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ﴾ أي في الصفاء، و﴿مَّكْنُونٌ﴾ ليفيد زيادة في صفاء ألوانهم أو لبيان أنهم كالمخدرات لا بروز لهم ولا خروج من عندهم فهم في أكنافهم.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٩٨
إشارة إلى أنهم يعلمون ما جرى عليهم في الدنيا ويذكرونه، وكذلك الكافر لا ينسى ما كان له من النعيم في الدنيا، فتزداد لذة المؤمن من حيث يرى نفسه انتقلت من السجن إلى الجنة ومن الضيق إلى السعة، ويزداد الكافر ألماً حيث يرى نفسه منتقلة من الشرف إلى التلف ومن النعيم إلى الجحيم، ثم يتذكرون ما كانوا /عليه في الدنيا من الخشية والخوف، فيقولون ﴿إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ﴾ وهو أنهم يكون تساؤلهم عن سبب ما وصلوا إليه فيقولون خشية الله كنا نخاف الله ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَـاـانَا عَذَابَ السَّمُومِ﴾ وفيه لطيفة وهو أن يكون إشفاقهم على فوات الدنيا والخروج منها ومفارقة الإخوان ثم لما نزلوا الجنة علموا خطأهم.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٩٨
وتعلق الآية بما قبلها ظاهر لأنه تعالى بيّن أن في الوجود قوماً يخافون الله ويشفقون في أهليهم، والنبي صلى الله عليه وسلّم مأمور بتذكير من يخاف الله تعالى بقوله ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ (ق : ٤٥) فحقق من يذكره فوجب التذكير، وأما الرسول عليه السلام فليس له إلا الإتيان بما أمر به، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في الفاء في قوله ﴿فَذَكِّرْ﴾ قد علم تعلقه بما قبله فحسن ذكره بالفاء.
المسألة الثانية : معنى الفاء في قوله ﴿فَمَآ أَنتَ﴾ أيضاً قد علم أي أنك لست بكاهن فلا تتغير ولا تتبع أهواءهم، فإن ذلك سيرة المزور ﴿فَذَكِّرْ﴾ فإنك لست بمزور، وذلك سبب التذكير.


الصفحة التالية
Icon