المسألة الثانية : قوله ﴿تَأْمُرُهُمْ أَحْلَـامُهُم﴾ إشارة إلى أن كل ما لا يكون على وفق العقل، لا ينبغي أن يقال، وإنما ينبغي أن يقال ما يجب قوله عقلاً، فهل صار (كل) واجب عقلاً مأموراً به.
المسألة الثالثة : ما الأحلام ؟
نقول جمع حلم وهو العقل وهما من باب واحد من حيث المعنى، لأن العقل يضبط المرء فيكون كالبعير المعقول لا يتحرك من مكانه، والحلم من الحلم وهو أيضاً سبب وقار المرء وثباته، وكذلك يقال للعقول النهى من النهي وهو المنع، وفيه معنى لطيف وهو أن الحلم في أصل اللغة هو ما يراه النائم فينزل ويلزمه الغسل، وهو سبب البلوغ وعنده يصير الإنسان مكلفاً، وكأن الله تعالى من لطيف حكمته قرن الشهوة بالعقل وعند ظهور الشهوة كمل العقل فأشار إلى العقل بالإشارة إلى ما يقارنه وهو الحلم، ليعلم أنه نذير كمال العقل، لا العقل الذي به يحترز الإنسان تخطىء الشرك ودخول النار، وعلى هذا ففيه تأكيد لما ذكرنا أن الإنسان لا ينبغي أن يقول كل معقول، بل لا يقول إلا ما يأمر به العقل الرزين الذي يصحح التكليف.
المسألة الرابعة : هذا إشارة إلى ماذا ؟
نقول فيه وجوه الأول : أن يكون هذا إشارة مهمة، أي بهذا الذي يظهر منهم قولاً وفعلاً حيث يعبدون الأصنام والأوثان ويقولون الهذيان من الكلام الثاني : هذا إشارة إلى قولهم هو كاهن هو شاعر هو مجنون الثالث : هذا إشارة إلى التربص فإنهم لما قالوا نتربص قال الله تعالى أعقولهم تأمرهم بتربص هلاكهم فإن أحداً لم يتوقع هلاك نبيه إلا وهلك.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٩٨
المسألة الخامسة : هل يصح أن تكون أم في هذا الموضع بمعنى بل ؟
نقول نعم، تقديره يقولون : إنه شاعر قولاً بل يعتقدونه عقلاً ويدخل في عقولهم ذلك، أي ليس ذلك قولاً منهم من غير عقل بل يعتقدون كونه كاهناً ومجنوناً، ويدل عليه قراءة من قرأ بل هم قوم طاغون، لكن بل ههنا واضح وفي قوله بل تأمرهم أحلامهم خفي.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٩٨
وهو متصل بقوله تعالى ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِه ﴾ (الطور : ٣٠) وتقديره على ما ذكرنا أتقولون كاهن، أم تقولون شاعر، أم تقوله.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ١٩٨
ثم قال لبطلان جميع الأقسام ﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِه إِن كَانُوا صَـادِقِينَ﴾ أي إن كان هو شاعراً ففيكم الشعراء البلغاء والكهنة الأذكياء ومن يرتجل الخطب والقصائر ويقص القصص ولا يختلف /الناقص والزائد فليأتوا بمثل ما أتى به، والتقول يراد به الكذب. وفيه إشارة إلى معنى لطيف وهو أن التفعل للتكلف وإراءة الشيء وهو ليس على ما يرى يقال تمرض فلان أي لم يكون مريضاً وأرى من نفسه المرض وحينئذ كأنهم كانوا يقولون كذب وليس بقول إنما هو تقول صورة القول وليس في الحقيقة به ليعلم أن المكذب هو الصادق، وقوله تعالى :﴿بَل لا يُؤْمِنُونَ﴾ بيان هذا أنهم كانوا في زمان نزول الوحي وحصول المعجزة كانوا يشاهدونها وكان ذلك يقتضي أن يشهدوا له عند غيرهم ويكونوا كالنجوم للمؤمنين كما كانت الصحابة رضي الله عنهم وهم لم يكونوا كذلك بل أقل من ذلك لم يكونوا أيضاً وهو أن يكونوا من آحاد المؤمنين الذين لم يشهدوا تلك الأمور ولم يظهر الأمر عندهم ذلك الظهور.
وقوله تعالى :﴿فَلْيَأْتُوا ﴾ الفاء للتعقيب أي إذا كان كذلك فيجب عليهم أن يأتوا بمثل ما أتى به ليصحح كلامهم ويبطل كلامه وفيه مباحث :
الأول : قال بعض العلماء ﴿فَلْيَأْتُوا ﴾ أمر تعجيز بقول القائل لمن يدعي أمراً أو فعلاً ويكون غرضه إظهار عجزه، والظاهر أن الأمر ههنا مبقي على حقيقته لأنه لم يقل : ائتوا مطلقاً بل إنما قال : ائتوا إن كنتم صادقين، وعلى هذا التقدير ووجود ذلك الشرط يجب الإتيان به وأمر التعجيز في كلام الله تعالى قوله تعالى :﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ ﴾ (البقرة : ٢٥٨) وليس هذا بحثاً يورث خللاً في كلامهم.
الثاني : قالت المعتزلة الحديث محدث والقرآن سماه حديثاً فيكون محدثاً، نقول الحديث اسم مشترك، يقال للمحدث والقديم، ولهذا يصح أن يقال هذا حديث قديم بمعنى متقادم العهد لا بمعنى سلب الأولية وذلك لا نزاع فيه.


الصفحة التالية
Icon