المسألة الثانية : ما الفائدة في قوله تعالى :﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ﴾ وما الفرق بين معنى هذا الكلام ومعنى قول القائل : أم يريدون كيداً فهم المكيدون ؟
نقول الفائدة كون الكافر مكيداً في مقابلة كفره لا في مقابلة إرادته الكيد ولو قال : أم يريدون كيداً فهم المكيدون، كان يفهم منه أنهم إن لم يريدوه لا يكونوا مكيدين، وهذا يؤيد ما ذكرناه أن المراد من الكيد كيد الشيطان أو كيد الله، بمعنى عذابه إياهم لأن قوله ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ﴾ عام في كل كافر كاده الشيطان ويكيده الله أي يعذبه/ وصار المعنى على ما ذكرناه أتهديهم لوجه الله أم تسألهم أجراً فتثقلهم فيمتنعون عن الاتباع، أم عندهم الغيب فلا يحتاجون إليك فيعرضون عنك، أم ليس شيء من هذين الأمرين الأخيرين فيريدون العذاب، والعذاب غير مدفوع عنهم بوجه من الوجوه لكفرهم فالذين كفروا معذبون.
المسألة الثالثة : ما الفائدة في تنكير الكيد حيث لم يقل أم يريدون كيدك أو الكيد أو غير ذلك ليزول الإبهام ؟
نقول فيه فائدة، وهي الإشارة إلى وقوع العذاب من حيث لا يشعرون فكأنه قال يأتيهم بغتة ولا يكون لهم به علم أو يكون إيراداً لعظمته كما ذكرنا مراراً.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٢٢٣
أعاد التوحيد وهو يفيد فائدة قوله تعالى :﴿أَمْ لَهُ الْبَنَـاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ﴾ (الطور : ٣٩) وفي ﴿سُبْحَـانَ اللَّهِ﴾ بحث شريف : وهو أهل اللغة قالوا : سبحان اسم علم للتسبيح، وقد ذكرنا ذلك في تفسير قوله تعالى :﴿فَسُبْحَـانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ (الروم : ١٧) وأكثرنا من الفوائد، فإن قيل يجوز أن نقول سبحان الله اسم مصدر، ونقول سبحان على وزن فعلان فنذكر سبحان من غير مواضع الإيقاع لله كما يقال في التسبيح، نقول ذلك مثل قول القائل من حرف جار وفي كلمة ظرف حيث يخبر عنه مع أن الحرف لا يخبر عنه فيجاب بأن من وفى حينئذ جعلا كالاسم ولم يتركا على أصلهما المستعمل في مثل قولك أخذت من زيد والدرهم في الكيس، فكذلك سبحان فيما ذكر من المواضع لم يترك على مواضع استعماله فإنه حينئذ لم يترك علماً كما يقال زيد على وزن فعل بخلاف التسبيح فيما ذكرنا.
المسألة الرابعة : ما في قوله تعالى :﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ يحتمل وجهين أحدهما : أن تكون مصدرية معناه سبحانه عن إشراكهم ثانيهما : خبرية معناه عن الذين يشركون، وعلى هذا فيحتمل أن يكون عن الولد لأنهم كانوا يقولون البنات لله فقال سبحان الله على البنات والبنين، ويحتمل أن يكون عن مثل الآلهة لأنهم كانوا يقولون هو مثل ما يعبدونه فقال سبحان الله عن مثل ما يعبدونه.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٢٢٣
وجه الترتيب فيه هو أنه تعالى لما بيّن فساد أقوالهم وسقوطها عن درجة الاعتبار أشار إلى أنه لم يبق لهم شيء من وجه الاعتذار، فإن الآيات ظهرت والحجج تميزت ولم يؤمنوا، وبعد ذلك ﴿يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ﴾ أي ينكرون الآية لكن الآية إذا أظهرت في أظهر الأشياء كانت أظهر، وبيانه هو أن من يأتي بجسم من الأجسام من بيته وادعى فيه أنه فعل به كذا فربما يخطر ببال السامع أنه في بيته ولما يبدعه، فإذا قال للناس هاتوا جسماً تريدون حتى أجعل لكم منه كذا يزول ذلك الوهم، لكن أظهر الأشياء عند الإنسان الأرض التي هي مهده وفرشه، والسماء التي هي سقفه وعرشه، وكانت العرب على مذهب الفلاسفة في أصل المذهب، ولا يلتفت إلى قول الفلسفي نحن ننزه غاية التنزيه حتى لا نجوز رؤيته واتصافه بوصف زائد على ذاته ليكون واحداً في الحقيقة، فكيف يكون مذهبنا مذهب من يشرك بالله صنماً منحوتاً ؟
نقول أنتم لما نسبتم الحوادث إلى الكواكب وشرعتم في دعوة الكواكب أخذ الجهال عنكم ذلك واتخذوه مذهباً وإذا ثبت أن العرب في الجاهلية كانت في الأصل على مذهب الفلاسفة وهم يقولون بالطبائع فيقولون الأرض طبعها التكوين والسماء طبعها يمنع الانفصل والانفكاك، فقال الله تعالى رداً عليهم في مواضع ﴿إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الارْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَآءِ ﴾ (سبأ : ٩) إبطالاً للطبائع وإيثاراً للاختيار في الوقائع، فقال ههنا إن أتينا بشيء غريب في غاية الغرابة في أظهر الأشياء وهو السماء التي يرونها أبداً ويعلمون أن أحداً لا يصل إليها ليعدد بالأدوية وغيرها ما يجب سقوطها لأنكروا ذلك، فكيف فيما دون ذلك من الأمور، والذي يؤيد ما ذكرناه وأنهم كانوا على مذهب الفلاسفة في أمر السماء أنهم قالوا ﴿أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا﴾ (الإسراء : ٩٢) أي ذلك في زعمك ممكن، فأما عندنا فلا، والكسفة القطعة يقال كسفة من ثوب أي قطعة، وفيه مباحث :


الصفحة التالية
Icon