البحث الثالث : بحث يحتمل أن يكون من وحي يوحى ويحتمل أن يكون من أوحى ييوحى، تقول عدم يعدم، وأعدم يعدم وكذلك علم يعلم وأعلم يعلم فنقول يوحى من أوحى لا من وحى، وإن كان وحي وأوحى كلاهما جاء بمعنى ولكن الله في القرآن عند ذكر المصدر لم يذكر /الإيحاء الذي هو مصدر أوحى، وعند ذكر الفعل لم يذكر وحي، الذي مصدره وحى، بل قال عند ذكر المصدر الوحي، وقال عند ذكر الفعل ﴿أَوْحَى ﴾ وكذلك القول في أحب وحب فإن حب وأحب بمعنى واحد، والله تعالى عند ذكر المصدر لم يذكر في القرآن الإحباب، وذكر الحب إلى ﴿ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا﴾ وعند الفعل لم يقل حبه الله بل قال :﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه ﴾ (المائدة : ٥٤)، وقال :﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ﴾ (الحجرات : ١٢) وقال :﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ (آل عمران : ٩٢) إلى غير ذلك وفيه سر من علم الصرف وهو أن المصدر والفعل الماضي الثلائي فيهما خلاف قال بعض علماء الصرف المصدر مشتق من الفعل الماضي، والماضي هو الأصل، والدليل عليه وجهان، لفظي ومعنوي :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٢٣١
أما اللفظي فإنهم يقولون مصدر فعل يفعل إذا كان متعدياً فعلاً بسكون العين، وإذا كان لازماً فعول في الأكثر، ولا يقولون الفعل الماضي من فعول فعلى، وهذا دليل ما ذكرنا.
وأما المعنوي فلأن ما يوجد من الأمور لا يوجد إلا وهو خاص وفي ضمنه العام مثاله الإنسان الذي يوجد ويتحقق يكون زيداً أن عمراً أو غيرهما، ويكون في ضمنه أنه هندي أو تركي وفي ضمن ذلك أنه حيوان وناطق، ولا يوجد أولاً إنسان ثم يصير تركياً ثم يصير زيداً أو عمراً.
إذا علمت هذا فالفعل الذي يتحقق لا ينفك من أن يكون ماضياً أو مستقبلاً وفي ضمنه أنه فعل مع قطع النظر عن مضيه واستقباله مثاله الضرب إذا وجد فأما أن يكون قد مضى أو بعد لم يمض، والأول ماض والثاني حاضر أو مستقبل، ولا يوجد الضرب من حيث إنه ضرب خالياً عن المضي والحضور والاستقبال، غير أن العاقل يدرك من فعل وهو يفعل الآن وسيفعل غداً أمراً مشتركاً فيسميه فعلاً، كذلك يدرك في ضرب وهو يضرب الآن وسيضرب غداً أمراً مشتركاً فيسميه ضرباً فضرب يوجد أولاً ويستخرج منه الضرب، والألفاظ وضعت لأمور تتحقق فيها فيعبر بها عنها والأمور المشتركة لا تتحقق إلا في ضمن أشياء أُخر، فالوضع أولاً لما يوجد منه لا يدرك منه قبل الضرب، وهذا ما يمكن أن يقال لمن يقول الماضي أصل والمصدر مأخوذ منه وأما الذي يقول المصدر أصل والماضي مأخوذ منه فله دلائل منها أن الاسم أصل، والفعل متفرع، والمصدر اسم، ولأن المصدر معرب والماضي مبني/ والإعراب قبل البناء ولأن قال وقال، وراع وراع، إذا أردنا الفرق بينهما نرد أبنيتهما إلى المصدر فنقول قال الألف منقلبة من واو بدليل القول، وقال ألف منقلبة من ياء بدليل القيل وكذلك الروع والريع. وأما المعقول فلأن الألفاظ وضعت للأمور التي في الأذهان، والعام قبل الخاص في الذهن، فإن الموجود إذا أدرك يقول المدرك هذا الموجود جوهر أو عرض فإذا أدرك أنه جوهر يقول إنه جسم أو غير جسم عند من يجعل الجسم جوهراً وهو الأصح الأظهر، ثم إذا أدرك كونه جسماً يقول هو تام وكذلك الأمر إلى أن ينتهي إلى أخص الأشياء إن أمكن الانتهاء إليه بالتقسيم، فالوضع الأول الفعل وهو المصدر من غير زيادة، ثم إذا انضم إليه زمان تقول : ضرب أو سيضرب فالمصدر قبل الماضي، وهذا هو الأصح، إذا علمت هذا فنقول على مذهب من يقول المصدر في الثلاثي من الماضي فالحب وأحب كلاهما في درجة /واحدة لأن كليهما من حب يحب والمصدر من الثلاثي قبل مصدر المنشعبة بمرتبة، وعلى مذهب من يقول الماضي في الثلاثي مأخوذ من المصدر فالمصدر الثلاثي قبل المصدر في المنشعبة بمرتبتين فاستعمل مصدر الثلاثي لأنه قبل مصدر المنشعبة، وأما الفعل في أحب وأوحى فلأن الألف فيهما تفيد فائدة لا يفيدها الثلاثي المجرد لأن أحب أدخل في التعدية وأبعد عن توهم اللزوم فاستعمله.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٢٣١
المسألة الرابعة :﴿إِنْ هُوَ إِلا وَحْىٌ﴾ أبلغ من قول القائل هو وحي، وفيه فائدة غير المبالغة وهي أنهم كانوا يقولون هو قول كاهن، هو قول شاعر فأراد نفي قولهم وذلك يحصل بصيغة النفي فقال ما هو كما يقولون وزاد فقال : بل هو وحي، وفيه زيادة فائدة أخرى وهو قوله ﴿يُوحَى ﴾ ذلك كقوله تعالى :﴿وَلا طَـا اـاِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ (الأنعام : ٣٨) وفيه تحقيق الحقيقة فإن الفرس الشديد العدو ربما يقال هو طائر فإذا قال يطير بجناحيه يزيل جواز المجاز، كذلك يقول بعض من لا يحترز في الكلام ويبالغ في المبالغة كلام فلان وحي، كما يقول شعره سحر، وكما يقول قوله معجزة، فإذا قال يوحى يزول ذلك المجاز أو يبعد.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٢٣١


الصفحة التالية
Icon