ثم قال تعالى :﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ﴾ أي بين جبرائيل ومحمد عليهما السلام مقدار قوسين أو أقل، ورد هذا على استعمال العرب وعادتهم، فإن الأميرين منهم أو الكبيرين إذا اصطلحا وتعاهدا خرجا بقوسيهما ووتر كل واحد منهما طرف قوسه بطرف قوس صاحبه ومن دونهما من الرعية يكون كفه بكفه فينهيان باعيهما، ولذلك تسمى مسايعة، وعلى هذا ففيه لطيفة وهي أن قوله ﴿قَابَ قَوْسَيْنِ﴾ على جعل كونهما كبيرين، وقوله ﴿أَوْ أَدْنَى ﴾ لفضل أحدهما على الآخر، فإن الأمير إذا بايعه الرعية لا يكون مع المبايع قوس فيصافحه الأمير فكأنه تعالى أخبر أنهما كأميرين كبيرين فكان بينهما مقدار قوسين أو كان جبرائيل عليه السلام سفيراً بين الله تعالى /ومحمد صلى الله عليه وسلّم فكان كالتبع لمحمد صلى الله عليه وسلّم فصار كالمبايع الذي يمد الباع لا القوس، هذا على قول من يفضل النبي صلى الله عليه وسلّم على جبرائيل عليه السلام وهو مذهب أهل السنة إلا قليلاً منهم إذ كان جبرائيل رسولاً من الله واجب التعظيم والاتباع فصار النبي صلى الله عليه وسلّم عنده كالتبع له على قول من يفضل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلّم، وفيه وجه آخر على ما ذكرنا، وهو أن يكون القوس عبارة عن بعد من قاس يقوس، وعلى هذا فنقول ذلك البعد هو البعد النوعي الذي كان للنبي صلى الله عليه وسلّم، فإنه على كل حال كان بشراً، وجبريل على كل حال كان ملكاً، فالنبي صلى الله عليه وسلّم وإن زال عن الصفات التي تخالف صفات الملك من الشهوة والغضب والجهل والهوى لكن بشريته كانت باقية، وكذلك جبريل وإن ترك الكمال واللطف الذي يمنع الرؤية والاحتجاب، لكن لم يخرج عن كونه ملكاً فلم يبق بينهما إلا اختلاف حقيقتهما، وأما سائر الصفات الممكنة الزوال فزالت عنهما فارتفع النبي صلى الله عليه وسلّم حتى بلغ الأفق الأعلى من البشرية وتدلى جبريل عليه السلام حتى بلغ الأفق الأدنى من الملكية فتقاربا ولم يبق بينهما إلا حقيقتهما، وعلى هذا ففي فاعل أوحى الأول وجهان أحدهما : أن الله تعالى أوحى، وعلى هذا ففي عبده وجهان أحدهما : أنه جبريل عليه السلام ومعناه أوحى الله إلى جبريل، وعلى هذا ففي فاعل أوحى الأخير وجهان أحدهما الله تعالى أيضاً، والمعنى حينئذ أوحى الله تعالى إلى جبريل عليه السلام الذي أوحاه إليه تفخيماً وتعظيماً للموحي ثانيهما : فاعل أوحى ثانياً جبريل، والمعنى أوحى الله إلى جبريل ما أوحى جبريل إلى كل رسول، وفيه بيان أن جبرائيل أمين لم يخن في شيء مما أوحى إليه، وهذا كقوله تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٢٣١


الصفحة التالية
Icon