المسألة الأولى : اللام في ﴿الْبَصَرُ﴾ يحتمل وجهين أحدهما : المعروف وهو بصر محمد صلى الله عليه وسلّم، أي ما زاغ بصر محمد، وعلى هذا فعدم الزيغ على وجوه، إن قلنا الغاشي للسدرة هو الجراد والفراش، فمعناه لم يتلفت إليه ولم يشتغل به، ولم يقطع نظره عن المقصود، وعلى هذا فغشيان الجراد والفراش يكون ابتلاء، وامتحاناً لمحمد صلى الله عليه وسلّم. وإن قلنا أنوار الله، ففيه وجهان أحدهما : لم يتلفت يمنة ويسرة، واشتغل بمطالعتها وثانيهما : ما زاغ البصر بصعقة بخلاف موسى عليه السلام، فإنه قطع النظر وغشي عليه، وفي الأول : بيان أدب محمد صلى الله عليه وسلّم، وفي الثاني : بيان قوته الوجه الثاني : في اللام أنه لتعريف الجنس، أي ما زاغ بصر أصلاً في ذلك الموضع لعظمة الهيبة، فإن قيل لو كان كذلك لقال ما زاغ بصر، لأنه أدل على العموم، لأن النكرة في معرض النفي تعم، نقول هو كقوله ﴿لا تُدْرِكُهُ الابْصَـارُ﴾ (الأنعام : ١٠٣) ولم يقل لا يدركه بصر.
المسألة الثانية : إن كان المراد محمداً، فلو قال ما زاغ قلبه كان يحصل به فائدة قوله ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ﴾ ؟
نقول لا، وذلك لأن من يحضر عند ملك عظيم يرى من نفسه أنه يهابه ويرتجف إظهاراً لعظمته مع أن قلبه قوي، فإذا قال :﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ﴾ يحصل منه فائدة أن الأمر كان عظيماً، ولم يزغ بصره من غير اختيار من صاحب البصر.
المسألة الثالثة :﴿وَمَا طَغَى ﴾ عطف جملة مستقلة على جملة أخرى، أو عطف جملة مقدرة على جملة، مثال المستقلة : خرج زيد ودخل عمرو، ومثال مقدرة : خرج زيد ودخل، فنقول الوجهان جائزان أما الأول : فكأنه تعالى قال عند ظهور النور : ما زاغ بصر محمد صلى الله عليه وسلّم، وما طغى محمد بسبب الالتفات، ولو التفت لكان طاغياً وأما الثاني : فظاهر على الأوجه، أما على قولنا : غشي السدرة جراد فلم يلتفت إليه ﴿وَمَا طَغَى ﴾ أي ما التفت إلى غير الله، فلم يلتفت إلى الجراد، ولا إلى غير الجراد سوى الله. وأما على قولنا غشيها نور، فقوله ﴿مَا زَاغَ﴾ أي ما مال عن الأنوار ﴿وَمَا طَغَى ﴾ أي ما طلب شيئاً وراءها وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال : ما زاغ وما طغى، ولم يقل : ما مال وما جاوز، لأن الميل في ذلك الموضع والمجاوزة مذمومان، فاستعمل الزيغ والطغيان فيه، وفيه وجه آخر وهو أن يكون ذلك بياناً لوصول محمد صلى الله عليه وسلّم إلى سدرة اليقين الذي لا يقين فوقه، ووجه ذلك أن بصر محمد صلى الله عليه وسلّم ﴿مَا زَاغَ﴾ أي ما مال عن الطريق، فلم ير الشيء على خلاف ما هو عليه، بخلاف من ينظر إلى عين الشمس مثلاً، ثم ينظر إلى شيء أبيض، فإنه يراه أصفر أو أخضر يزيغ بصره عن جادة الأبصار ﴿وَمَا طَغَى ﴾ ما تخيل المعدوم موجوداً فرأى المعدوم مجاوزاً الحد.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٢٣١
ثم قال تعالى :﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَـاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : فيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلّم، رأى ليلة المعراج آيات الله، ولم ير الله، وفيه خلاف ووجهه : هو أن الله تعالى ختم قصة المعراج ههنا برؤية الآيات، وقال :﴿سُبْحَـانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلا﴾ إلى أن قال :﴿لِنُرِيَه مِنْ ءَايَـاتِنَآ ﴾ (الإسراء : ١) ولو كان رأى ربه لكان ذلك أعظم ما يمكن، فكانت الآية الرؤية، وكان أكبر شيء هو الرؤية، ألا ترى أن من له مال يقال له : سافر لتربح، ولا يقال : سافر لتتفرج، لما أن الربح أعظم من التفرج.
المسألة الثانية : قال بعض المفسرين ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَـاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾ وهي أنه رأى جبريل عليه السلام في صورته، فهل هو على ما قاله ؟
نقول الظاهر أن هذه الآيات غير تلك، وذلك لأن جبريل عليه السلام وإن كان عظيماً، لكن ورد في الأخبار أن لله ملائكة أعظم منه، والكبرى تأنيث الأكبر، فكأنه تعالى يقول : رأى من آيات ربه آيات هن أكبر الآيات، فإن قيل قال الله تعالى :﴿إِنَّهَا لاحْدَى الْكُبَرِ﴾ (المدثر : ٣٥) مع أن أكبر من سقر عجائب الله، فكذلك الآيات الكبرى تكون جبريل وما فيه، وإن كان لله آيات أكبر منه نقول سقر إحدى الكبر أي إحدى الدواهي الكبر، ولا شك أن في الدواهي سقر عظيمة كبيرة، وأما آيات الله فليس جبريل أكبرها ولأن سقر في نفسها أعظم وأعجب من جبريل عليه السلام فلا يلزم من صفتها بالكبر صفتها بالكبرى.
المسألة الثالثة : الكبرى صفة ماذا ؟
نقول فيه وجهان أحدهما : صفة محذوف تقديره : لقد رأى من آيات ربه الآية الكبرى، ثانيهما : صفة آيات ربه وعلى هذا يكون مفعول رأى محذوفاً تقديره رأى من الآيات الكبرى آية أو شيئاً ثم قال تعالى :
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٢٣١


الصفحة التالية
Icon