ثم قال تعالى :﴿أَمْ لِلانسَـانِ مَا تَمَنَّى ﴾ المشهور أن أم منقطعة معناه : أللإنسان ما اختاره واشتهاه ؟
وفي ﴿مَا تَمَنَّى ﴾ وجوه الأولى : الشفاعة تمنوها وليس لهم شفاعة الثاني : قولهم ﴿وَلَـاـاِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لِى عِندَه لَلْحُسْنَى ﴾ (فصلت : ٥٠) الثالث : قول الوليد بن المغيرة ﴿لاوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا﴾ (مريم : ٧٧) الرابع : تمنى جماعة أن يكونوا أنبياء ولم تحصل لهم تلك الدرجة الرفيعة، فإن قلت هل يمكن أن تكون أم ههنا متصلة ؟
نقول نعم والجملة الأولى حينئذ تحتمل وجهين أحدهما : أنها مذكورة في قوله تعالى :﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الانثَى ﴾ (النجم : ٢١) كأنه قال ألكم الذكر وله الأنثى على الحقيقة أو تجعلون لأنفسكم ما تشتهون وتتمنون وعلى هذا فقوله تلك ﴿إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ﴾ (النجم : ٢٢) وغيرها جمل اعترضت بين كلامين متصلين ثانيهما : أنها محذوفة وتقرير ذلك هو أنا بينا أن قوله ﴿أَفَرَءَيْتُمُ﴾ (النجم : ١٩) لبيان فساد قولهم، والإشارة إلى ظهور ذلك من غير دليل، كما إذا قال قائل فلان يصلح للملك فيقول آخر لثالث، أما رأيت هذا الذي يقوله فلان ولا يذكر أنه لا يصلح للملك، ويكون مراده ذلك فيذكره وحده منهاً على عدم صلاحه، فههنا قال تعالى :﴿أَفَرَءَيْتُمُ اللَّـاتَ وَالْعُزَّى ﴾ أي يستحقان العبادة أم للإنسان أن يعبد ما يشتهيه طبعه وإن لم يكن يستحق العبادة، وعلى هذا فقوله أم للإنسان أي هل له أن يعبد بالتمنى والاشتهاء، ويؤيد هذا قوله تعالى :﴿وَمَا تَهْوَى الانفُسُ﴾ أي عبدتم بهوى أنفسكم ما لا يستحق العبادة فهل لكم ذلك.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٢٣١
ثم قال تعالى :﴿فَلِلَّهِ الاخِرَةُ وَالاولَى ﴾ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تعلق الفاء بالكلام وفيه وجوه الأولى : أن تقديره الإنسان إذا اختار معبوداً في دنياه على ما تمناه واشتهاه فلله الآخرة والأولى يعاقبه على فعله في الدنيا وإن لم يعاقبه في الدنيا فيعاقبه في الآخرة، وقوله تعالى :﴿وَكَم مِّن مَّلَكٍ﴾ إلى قوله تعالى :﴿لا تُغْنِى شَفَـاعَتُهُمْ﴾ (النجم : ٢٦) يكون مؤكداً لهذا المعنى أي عقابهم يقع ولا يشفع فيهم أحد ولا يغنيهم شفاعة شافع الثاني : أنه تعالى لما بيّن أن اتخاذ اللاّت والعزى باتباع الظن وهوى الأنفس كأنه قرره وقال إن لم تعلموا هذا فلله الآخرة والأولى، وهذه الأصنام ليس لها من الأمر شيء فكيف يجوز الإشراك وقوله تعالى :﴿وَكَم مِّن مَّلَكٍ﴾ على هذا الوجه جواب كلام كأنهم قالوا لا نشرك بالله شيئاً، وإنما هذه الأصنام شفعاؤنا فإنها صورة ملائكة مقربين، فقال :﴿وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِى السَّمَـاوَاتِ لا تُغْنِى شَفَـاعَتُهُمْ شَيْـاًا﴾ الثالث : هذه تسلية كأنه تعالى قال ذلك لنبيه حيث بيّن رسالته ووحدانية الله ولم يؤمنوا فقال لا تأس ﴿فَلِلَّهِ الاخِرَةُ وَالاولَى ﴾ أي لا يعجزون الله الرابع : هو ترتيب حق على دليله /بيانه هو أنه تعالى لما بيّن رسالة النبي صلى الله عليه وسلّم بقوله ﴿إِنْ هُوَ إِلا وَحْىٌ يُوحَى ﴾ (النجم : ٤) إلى آخره وبيّن بعض ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلّم وهو التوحيد، قال إذاعلمتم صدق محمد ببيان رسالة الله تعالى :﴿فَلِلَّهِ الاخِرَةُ وَالاولَى ﴾ لأنه صلى الله عليه وسلّم أخبركم عن الحشر فهو صادق الخامس : هو أن الكفار كانوا يقولون للمؤمنين أهؤلاء أهدى منا ؟
وقالوا ﴿لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْه ﴾ (الأحقاف : ١١) فقال تعالى : إن الله اختار لكم الدنيا وأعطاكم الأموال ولم يعط المؤمنين بعض ذلك الأمر بل قلتم : لو شاء الله لأغناهم وتحققتم هذه القضية ﴿فَلِلَّهِ الاخِرَةُ وَالاولَى ﴾ قولوا في الآخرة ما قلتم في الدنيا يهدي الله من يشاء كما يغني الله ما يشاء.
جزء : ٢٨ رقم الصفحة : ٢٣١
المسألة الثانية :﴿الاخِرَةُ﴾ صفة ماذا ؟
نقول صفة الحياة أو صفة الدار وهي اسم فاعل من فعل غير مستعمل، تقول أخرته فتأخر وكان من حقه أن تقول فأخر كما تقول غبرته فغبر فمنعت منه سماعاً، ولهذا البحث فائدة ستأتي إن شاء الله.
المسألة الثالثة :﴿الاولَى ﴾ فعلى للتأنيث، فالأول إذن أفعل صفة. وفيه مباحث :


الصفحة التالية
Icon