ثم ابتدأ وقال :﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِه وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ﴾ وفي المناسبة وجوه الأول : أنه تعالى لما قال : للنبي صلى الله عليه وسلّم، أعرض وكان النبي صلى الله عليه وسلّم شديد الميل إلى إيمان قومه وكان ربما هجس في خاطره، أن في الذكرى بعد منفعة، وربما يؤمن من الكافرين قوم آخرون من غير قتال فقال له :﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِه ﴾ علم أنه يؤمن بمجرد الدعاء أحد من المكلفين، وإنما ينفع فيهم أن يقع السيف والقتال فأعرض عن الجدال وأقبل على / القتال، وعلى هذا فقوله :﴿بِمَنِ اهْتَدَى ﴾ أي علم في الأزل، من ضل في تقديره ومن اهتدى، فلا يشتبه عليه الأمران، ولا يأس في الإعراض ويعد في العرف مصلحة ثانيها : هو على معنى قوله تعالى :﴿وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ﴾ (سبأ : ٢٤) وقوله تعالى :﴿يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا ﴾ (الأعراف : ٨٧) ووجهه أنهم كانوا يقولون : نحن على الهدى وأنتم مبطلون وأقام النبي صلى الله عليه وسلّم الحجة عليهم فلم ينفعهم، فقال تعالى : أعرض عنهم وأجرك وقع على الله، فإنه يعلم أنكم مهتدون، ويعلم أنهم ضالون، والمتناظران إذا تناظرا عند ملك قادر مقصودهم ظهور الأمر عند الملك فإن اعترف الخصم بالحق فذاك، وإلا فغرض المصيب يظهر عند الملك فقال تعالى : جادلت وأحسنت والله أعلم بالمحق من المبطل ثالثها : أنه تعالى لما أمر نبيه بالإعراض وكان قد صدر منهم إيذاء عظيم وكان النبي صلى الله عليه وسلّم يتحمله رجاء أن يؤمنوا/ فنسخ جميع ذلك فلما لم يؤمنوا فكأنه قال : سعيي وتحملي لإيذائهم وقع هباء، فقال الله تعالى : إن الله يعلم حال المضلين والمهتدين :(لله ما في السموات والأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا) من المهتدين. وفيه مسائل :
المسألة الأولى :﴿هُوَ﴾ يسمى عماداً وفصلاً، ولو قال : إن ربك أعلم لتمَّ الكلام، غير أن عند خلو الكلام عن هذا العماد ربما يتوقف السامع على سماع ما بعده، ليعلم أن :﴿أَعْلَمُ﴾ خبر :﴿رَبِّكَ﴾ أو هو مع شيء آخر خبر، مثاله لو قال : إن زيداً أعلم منه عمرو يكون خبر زيد الجملة التي بعده، فإن قال :﴿هُوَ أَعْلَمُ﴾ إنتفى ذلك التوهم.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٧٢
المسألة الثانية :﴿أَعْلَمُ﴾ يقتضي مفضلاً عليه يقال : زيد أعلم من عمرو والله أعلم ممن ؟
نقول : أفعل يجيء كثيراً بمعنى عالم لا عالم مثله، وحينئذ إن كان هناك عالم فذلك مفضل عليه وإن لم يكن ففي الحقيقة هو العالم لا غير، وفي كثير من المواضع أفعل في صفات الله بذلك المعنى يقال : الله أكبر وفي الحقيقة لا كبير مثله ولا أكبر إلا هو، والذي يناسب هذا أنه ورد في الدعوات يا أكرم الأكرمين كأنه قال : لا أكرم مثلك، وفي الحقيقة لا أكرم إلا هو وهذا معنى قول من يقول :﴿أَعْلَمُ﴾ بمعنى عالم بالمهتدي والضال، ويمكن أن يقال : أعلم من كل عالم بفرض عالم غيره.
المسألة الثالثة : علمته وعلمت به مستعملان، قال الله تعالى في الأنعام :﴿هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِه ﴾ (الأنعام : ١١٧) ثم ينبغي أن يكون المراد من المعلوم العلم إذا كان تعلقه بالمعلوم أقوى، إما لقوة العلم وإما لظهور المعلوم وإما لتأكيد وجوب العلم به، وإما لكون الفعل له قوة، أما قوة العلم فكما في قوله تعالى :﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَه ﴾ (المزمل : ٢٠) وقال :﴿أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾ (العلق : ١٤) لما كان علم الله تعالى تاماً شاملاً علقه بالمفعول الذي هو حال من أحوال عبده الذي هو بمرأى منه من غير حرف، ولما كان علم العبد ضعيفاً حادثاً علقه بالمفعول الذي هو صفة من صفات الله تعالى الذي لا يحيط به علم البشر بالحرف أو لما كان كون الله رائياً لم يكن محسوساً به مشاهداً علق الفعل به بنفسه وبالآخر بالحرف، وأما ظهور المعلوم فكما قال تعالى :﴿أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ﴾ (الزمر : ٥٢) وهو معلوم ظاهر وأما تأكيد وجوب العلم به كما في قوله تعالى ﴿فَاعْلَمْ أَنَّه لا إِلَـاهَ إِلا اللَّهُ﴾ (محمد : ١٩) ويمكن أن يقال : هو من قبيل الظاهر، وكذلك قوله تعالى :﴿وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّه ﴾ (التوبة : ٢) وأما قوة الفعل فقال تعالى :﴿عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ﴾ (المزمل : ٢٠) وقال تعالى :﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى ﴾ لما كان المستعمل صفة الفعل علقه بالمفعول بغير حرف وقال تعالى :﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن﴾ كما كان المستعمل اسماً دالاً على فعل ضعف عمله لتعلقه بالمفعول.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٧٢


الصفحة التالية
Icon