المسألة الأولى : قال الزمخشري : ما يدل على أنه يعتقد أن اللام في قوله :﴿لِيَجْزِىَ﴾ كاللام في قوله تعالى :﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا﴾ (النحل : ٨) وهو جرى في ذلك على مذهبه فقال :﴿وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ﴾ معناه خلق ما فيهما لغرض الجزاء وهو لا يتحاشى مما ذكره لما عرف من مذهب الاعتزال، وقال الواحدي : اللام للعاقبة كما في قوله تعالى :﴿لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا﴾ (القصص : ٨) أي أخذوه وعاقبته أنه يكون لهم عدواً، والتحقيق فيه وهو أن حتى ولام الغرض متقاربان في المعنى، لأن الغرض نهاية الفعل، وحتى للغاية المطلقة فبينهما مقاربة فيستعمل أحدهما مكان الآخر، يقال : سرت حتى أدخلها ولكي أدخلها، فلام العاقبة هي التي تستعمل في موضع حتى للغاية، ويمكن أن يقال : هنا وجه أقرب من الوجهين وإن كان أخفى منهما وهو أن يقال : إن قوله :﴿لِيَجْزِىَ﴾ متعلق بقوله : ضل واهتدى لا بالعلم ولا بخلق ما في السموات، تقديره كأنه قال : هو أعلم بمن ضل واهتدى :﴿لِيَجْزِىَ﴾ أن من ضل واهتدى يجزي الجزاء والله أعلم به، فيصير قوله :﴿وَلِلَّهِ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الارْضِ﴾ كلاماً معترضاً، ويحتمل أن يقال : هو متعلق بقوله تعالى :﴿فَأَعْرِضْ﴾ (النجم : ٢٩) أي أعرض عنهم ليقع الجزاء، كما يقول المريد فعلاً لمن يمنعه منه زرني لأفعله، وذلك لأن ما دام النبي صلى الله عليه وسلّم لم ييأس ما كان العذاب ينزل والإعراض وقت اليأس، وقوله تعالى :﴿وَيَجْزِىَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ حينئذ يكون مذكوراً ليعلم أن العذاب الذي عند إعراضه يتحقق ليس مثل الذي قال تعالى فيه :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٧٤
﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً ﴾ (الأنفال : ٢٥) بل هو مختص بالذين ظلموا وغيرهم لهم الحسنى، وقوله تعالى في حق المسيء ﴿بِمَا عَمِلُوا ﴾ وفي حق المحسن ﴿بِالْحُسْنَى﴾ فيه لطيفة لأن جزاء المسيء عذاب فنبه على ما يدفع الظلم فقال : لا يعذب إلا عن ذنب، وأما في الحسنى فلم يقل : بما عملوا لأن الثواب إن كان لا على حسنة يكون في غاية الفضل فلا يخل بالمعنى هذا إذا قلنا الحسنى هي المثوبة بالحسنى، وأما إذا قلنا الأعمال الحسنى ففيه لطيفة غير ذلك، وهي أن أعمالهم لم يذكر فيها التساوي، وقال في أعمال المحسنين ﴿الْحُسْنَى ﴾ إشارة إلى الكرم والصفح حيث ذكر أحسن الإسمين والحسنى صفة أقيمت مقام الموصوف كأنه تعالى قال بالأعمال الحسنى كقوله تعالى :﴿الاسْمَآءُ الْحُسْنَى ﴾ (الأعراف : ١٨٠) وحينئذ هو كقوله تعالى :﴿لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّـاَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (العنكبوت : ٧) أي يأخذ أحسن أعمالهم ويجعل ثواب كل ما وجد منهم لجزاء ذلك الأحسن أو هي صفة المثوبة، كأنه قال : ويجزي الذين أحسنوا بالمثوبة الحسنى أو بالعاقبة الحسنى أي جزاؤهم حسن العاقبة وهذا جزاء فحسب، وأما الزيادة التي هي الفضل بعد الفضل فغير داخلة فيه.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٧٤
٢٧٧
ثم قال تعالى :﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـا اـاِرَ الاثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ ﴾ الذين يحتمل أن يكون بدلاً عن الذين أحسنوا وهو الظاهر، وكأنه تعالى قال ليجزي الذين أساءوا ويجزي الذين أحسنوا، ويتبين به أن المحسن ليس ينفع الله بإحسانه شيئاً وهو الذي لا يسيء ولا يرتكب القبيح الذي هو سيئة في نفسه عند ربه فالذين أحسنوا هم الذين اجتنبوا ولهم الحسنى، وبهذا يتبين المسيء والمحسن لأن من لا يجتنب كبائر الإثم يكون مسيئاً والذي يجتنبها يكون محسناً، وعلى هذا ففيه لطيفة وهو أن المحسن لما كان هو من يجتنب الآثام فالذي يأتي بالنوافل يكون فوق المحسن، لكن الله تعالى وعد المحسن بالزيادة فالذي فوقه يكون له زيادات فوقها وهم الذين لهم جزاء الضعف، ويحتمل أن يكون ابتداء كلام تقديره الذين يجتنبون كبائر الإثم يغفر الله لهم والذي يدل عليه قوله تعالى :﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ﴾ وعلى هذا تكون هذه الآية مع ما قبلها مبينة لحال المسيء والمحسن وحال من لم يحسن ولم يسيء وهم الذين لم يرتكبوا سيئة وإن لم تصدر منهم الحسنات، وهم كالصبيان الذين لم يوجد فيهم شرائط التكليف ولهم الغفران وهو دون الحسنى، ويظهر هذا بقوله تعالى بعده :﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الارْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ﴾ أي يعلم الحالة التي لا إحسان فيها ولا / إساءة، كما علم من أساء وضل ومن أحسن واهتدى، وفيه مسائل :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٧٧


الصفحة التالية
Icon