المسألة الثالثة : ما المراد بالذي فيها ؟
نقول قوله تعالى :﴿أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلانسَـانِ إِلا مَا سَعَى ﴾ (النجم : ٣٨، ٣٩) وما بعده من الأمور المذكورة على قراءة من قرأ أن بالفتح وعلى قراءة من يكسر ويقول :﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ﴾ ففيه وجوه أحدها : هو ما ذكر بقوله :﴿أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ وهو الظاهر، وإنما احتمل غيره، لأن صحف موسى وإبراهيم ليس فيها هذا فقط، وليس هذا معظم المقصود بخلاف قراءة الفتح، فإن فيها تكون جميع الأصول على ما بين ثانيها : هو أن الآخرة خير من الأولى يدل عليه قوله تعالى :﴿إِنَّ هَـاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾ (الأعلى : ١٨، ١٩) ثالثها : أصول الدين كلها مذكورة في الكتب بأسرها، ولم يخل الله كتاباً عنها، ولهذا قال لنبيه صلى الله عليه وسلّم :﴿فَبِهُدَاـاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ (الأنعام : ٩٠) وليس المراد في الفروع، لأن فروع دينه مغايرة لفروع دينهم من غير شك.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٧٩
المسألة الرابعة : قدم موسى ههنا ولم يقل كما قال في ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاعْلَى﴾ (الأعلى : ١) فهل فيه فائدة ؟
نقول : مثل هذا في كلام الفصحاء لا يطلب له فائدة، بل التقديم والتأخير سواء في كلامهم فيصح أن يقتصر على هذا الجواب، ويمكن أن يقال : إن الذكر هناك لمجرد الإخبار والإنذار وههنا المقصود بيان انتفاء الأعذار، فذكر هناك على ترتيب الوجود صحف إبراهيم قبل صحف موسى في الإنزال، وأما ههنا فقد قلنا إن الكلام مع أهل الكتاب وهم اليهود فقدم كتابهم، وإن قلنا الخطاب عام فصحف موسى عليه السلام كانت كثيرة الوجود، فكأنه قيل لهم انظروا فيها تعلموا أن الرسالة حق/ وأرسل من قبل موسى رسل والتوحيد صدق والحشر واقع فلما كانت صحف موسى عند اليهود كثيرة الوجود قدمها، وأما صحف إبراهيم فكانت بعيدة وكانت المواعظ التي فيها غير مشهورة فيما بينهم كصحف موسى فأخر ذكرها.
المسألة الخامسة : كثيراً ما ذكر الله موسى فأخر ذكره عليه السلام لأنه كان مبتلى في / أكثر الأمر بمن حواليه وهم كانوا مشركين ومتهودين والمشركون كانوا يعظمون إبراهيم عليه السلام لكونه أباهم، وأما قوله تعالى :﴿وَفَّى ﴾ ففيه وجهان أحدهما : أنه الوفاء الذي يذكر في العهود وعلى هذا فالتشديد للمبالغة يقال وفى ووفى كقطع وقطع وقتل وقتل، وهو ظاهر لأنه وفى بالنذر وأضجع ابنه للذبح، وورد في حقه :﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّءْيَآ ﴾ (الصافات : ١٠٥) وقال تعالى :﴿إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ الْبَلَـا ؤُا الْمُبِينُ﴾ (الصافات : ١٠٦) وثانيهما : أنه من التوفية التي من الوفاء وهو التمام والتوفية الإتمام يقال وفاه أي أعطاه تاماً، وعلى هذا فهو من قوله :﴿وَإِذِ ابْتَلَى ا إِبْرَاه مَ رَبُّه بِكَلِمَـاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ (البقرة : ١٢٤) وقيل :﴿وَفَّى ﴾ أي أعطى حقوق الله في بدنه، وعلى هذا فهو على ضد من قال تعالى فيه :﴿وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى ﴾ مدح إبراهيم ولم يصف موسى عليه السلام، نقول : أما بيان توفيته ففيه لطيفة وهي أنه لم يعهد عهداً إلا وفى به، وقال لأبيه :﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّى ﴾ (يوسف : ٩٨) فاستغفر ووفى بالعهد ولم يغفر الله له، فعلم ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلانسَـانِ إِلا مَا سَعَى ﴾ وأن وزره لا تزره نفس أخرى، وأما مدح إبراهيم عليه السلام فلأنه كان متفقاً عليه بين اليهود والمشركين والمسلمين ولم ينكر أحد كونه وفياً، وموفياً، وربما كان المشركون يتوقفون في وصف موسى عليه السلام، ثم قال تعالى :﴿أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ وقد تقدم تفسيره في سورة الملائكة، والذي يحسن بهذا الموضع مسائل :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٧٩
الأولى : أنا بينا أن الظاهر أن المراد من قوله :﴿بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى ﴾ هو ما بينه بقوله ﴿أَلا تَزِرُ﴾ فيكون هذا بدلاً عن ما وتقديره أم لم ينبأ بألا تزر وذكرنا هناك وجهين أحدهما : المراد أن الآخرة خير وأبقى وثانيهما : الأصول.
المسألة الثانية :﴿أَلا تَزِرُ﴾ أن خفيفة من الثقيلة كأنه قال : أنه لا تزر وتخفيف الثقيلة لازم وغير لازم جائز وغير جائز، فاللازم عندما يكون بعدها فعل أو حرف داخل على فعل، ولزم فيها التخفيف، لأنها مشبهة بالفعل في اللفظ والمعنى، والفعل لا يمكن إدخاله على فعل فأخرج عن شبه الفعل إلى صورة تكون حرفاً مختصاً بالفعل فتناسب الفعل فتدخل عليه.


الصفحة التالية
Icon