المسألة الأولى : المشار إليه بهذا ماذا ؟
نقول فيه وجوه أحدها : محمد صلى الله عليه وسلّم من جنس النذر الأولى ثانيها : القرآن ثالثها : ما ذكره من أخبار المهلكين، ومعناه حينئذ هذا بعض الأمور التي هي منذرة، وعلى قولنا : المراد محمد صلى الله عليه وسلّم فالنذير هو المنذر و﴿مِنْ﴾ لبيان الجنس، وعلى قولنا : المراد هو القرآن يحتمل أن يكون النذير بمعنى المصدر، ويحتمل أن يكون بمعنى الفاعل، وكون الإشارة إلى القرآن بعيد لفظاً ومعنى، أما معنى : فلأن القرآن ليس من جنس الصحف الأولى لأنه معجز وتلك لم تكن معجزة، وذلك لأنه تعالى لما بين الوحدانية وقال :﴿فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ﴾ قال :﴿هَاذَا نَذِيرٌ﴾ إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلّم وإثباتاً للرسالة، وقال بعد ذلك :﴿أَزِفَتِ الازِفَةُ﴾ إشارة إلى القيامة ليكون في الآيات الثلاث المرتبة إثبات أصول ثلاث مرتبة، فإن الأصل الأول هو الله ووحدانيته ثم الرسول ورسالته ثم الحشر والقيامة، وأما لفظاً فلأن النذير إن كان كاملاً، فما ذكره من حكاية المهلكين أولى لأنه أقرب ويكون / على هذا من بقي على حقيقة التبعيض أي هذا الذي ذكرنا بعض ما جرى ونبذ مما وقع، أو يكون لابتداء الغاية، بمعنى هذا إنذار من المنذرين المتقدمين، يقال : هذا الكتاب، وهذا الكلام من فلان وعلى الأقوال كلها ليس ذكر الأولى لبيان الموصوف بالوصف وتمييزه عن النذر الآخرة كما يقال : الفرقة الأولى احترازاً عن الفرقة الأخيرة، وإنما هو لبيان الوصف للموصوف، كما يقال : زيد العالم جاءني فيذكر العالم، إما لبيان أن زيداً عالم غير أنك لا تذكره بلفظ الخبر فتأتي به على طريقة الوصف، وإما لمدح زيد به، وإما لأمر آخر، والأولى على العود إلى لفظ الجمع وهو النذر ولو كان لمعنى الجمع لقال : من النذر الأولين يقال من الأقوام المتقدمة والمتقدمين على اللفظ والمعنى.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٨٧
٢٨٧
وهو كقوله تعالى :﴿وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ (الواقعة : ١) ويقال : كانت الكائنة. وهذا الاستعمال يقع على وجوه منها ما إذا كان الفاعل صار فاعلاً لمثل ذلك الفعل من قبل، ثم صدر منه مرة أخرى مثل الفعل، فيقال : فعل الفاعل أي الذي كان فاعلاً صار فاعلاً مرة أخرى، يقال : حاكه الحائك أي من شغله ذلك من قبل فعله، ومنها ما يصير الفاعل فاعلاً بذلك الفعل، ومنه يقال :"إذا مات الميت انقطع عمله" وإذا غصب العين غاصب ضمنه، فقوله :﴿أَزِفَتِ الازِفَةُ﴾ يحتمل أن يكون من القبيل الأول أي قربت الساعة التي كل يوم يزداد قربها فهي كائنة قريبة وازدادت في القرب، ويحتمل أن يكون كقوله تعالى :﴿وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ أي قرب وقوعها وأزفت فاعلها في الحقيقة القيامة أو الساعة، فكأنه قال : أزفت القيامة الآزفة أو الساعة أو مثلها.
[بم وقوله تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٨٧
٢٨٧
فيه وجوه أحدها : لا مظهر لها إلا الله فمن يعلمها لا يعلم إلا بإعلام الله تعالى إياه وإظهاره إياها له، فهو كقوله تعالى :﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ (لقمان : ٣٤) وقوله تعالى :﴿لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلا هُوَ ﴾ (الأعراف : ١٨٧). ثانيها : لا يأتي بها إلا الله، كقوله تعالى :﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَه ا إِلا هُوَ ﴾ (الأنعام : ١٧) وفيه مسائل :
الأولى :﴿مِنْ﴾ زائدة تقديره ليس لها غير الله كاشفة، وهي تدخل على النفي فتؤكد معناه، تقول : ما جاءني أحد وما جاءني من أحد، وعلى هذا يحتمل أن يكون فيه تقديم وتأخير، تقديره ليس لها من كاشفة دون الله، فيكون نفياً عاماً بالنسبة إلى الكواشف، ويحتمل أن يقال : ليست بزائدة بل معنى الكلام أنه ليس في الوجود نفس تكتشفها أي تخبر عنها كما هي ومتى وقتها من غير الله تعالى يعني من يكشفها فإنما يكشفها من الله لا من غير الله يقال : كشف الأمر من زيد، ودون يكون بمعنى غير كما في قوله تعالى :﴿ءَالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ﴾ (الصافات : ٨٦) أي غير الله.
المسألة الثانية : كاشفة صفة لمؤنث أي نفس كاشفة، وقيل هي للمبالغة كما في العلامة وعلى هذا لا يقال بأنه نفى أن يكون لها كاشفة بصيغة المبالغة ولا يلزم من الكاشف الفائق نفي / نفس الكاشف، لأنا نقول : لو كشفها أحد لكان كاشفاً بالوجه الكامل، فلا كاشف لها ولا يكشفها أحد وهو كقوله تعالى :﴿وَمَآ أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ (ق : ٢٩) من حيث نفى كونه ظالماً مبالغاً، ولا يلزم منه نفي كونه ظالماً، وقلنا هناك : إنه لو ظلم عبيده الضعفاء بغير حق لكان في غاية الظلم وليس في غاية الظلم فلا يظلمهم أصلاً.
المسألة الثالثة : إذا قلت : إن معناه ليس لها نفس كاشفة، فقوله :﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ استثناء على الأشهر من الأقوال، فيكون الله تعالى نفساً لها كاشفة ؟
نقول : الجواب عنه من وجوه الأول : لا فساد في ذلك قال الله تعالى :﴿وَلا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ﴾ (المائدة : ١١٦) حكاية عن عيسى عليه السلام والمعنى الحقيقة. الثاني : ليس هو صريح الاستثناء فيجوز فيه أن لا يكون نفساً الثالث : الاستثناء الكاشف المبالغ.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٨٧
٢٨٤
قيل : من القرآن، ويحتمل أن يقال : هذا إشارة إلى حديث :﴿أَزِفَتِ الازِفَةُ﴾ (النجم : ٥٧) فإنهم كانوا يتعجبون من حشر الأجساد وجمع العظام بعد الفساد.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٨٤
٢٨٨
وقوله تعالى :﴿وَتَضْحَكُونَ﴾ يحتمل أن يكون المعنى وتضحكون من هذا الحديث، كما قال تعالى :﴿فَلَمَّا جَآءَهُم بِاَايَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ﴾ (الزخرف : ٤٧) في حق موسى عليه السلام، وكانوا هم أيضاً يضحكون من حديث النبي والقرآن، ويحتمل أن يكون إنكاراً على مطلق الضحك مع سماع حديث القيامة، أي أتضحكون وقد سمعتم أن القيامة قربت، فكان حقاً أن لا تضحكوا حينئذ.
وقوله تعالى :﴿وَلا تَبْكُونَ﴾ أي كان حقاً لكم أن تبكوا منه فتتركون ذلك وتأتون بضده.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٨٨
٢٨٨
وقوله تعالى :﴿وَأَنتُمْ سَامِدُونَ﴾ أي غافلون، وذكر باسم الفاعل، لأن الغفلة دائمة، وأما الضحك والعجب فهما أمران يتجددان ويعدمان.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٨٨
٢٨٨
يحتمل أن يكون الأمر عاماً، ويحتمل أن يكون التفاتاً، فيكون كأنه قال : أيها المؤمنون اسجدوا شكراً على الهداية واشتغلوا بالعبادة، ولم يقل : اعبدوا الله إما لكونه معلوماً، وإما لأن العبادة في الحقيقة لا تكون إلا لله، فقال :﴿وَاعْبُدُوا ﴾ أي ائتوا بالمأمور، ولا تعبدوا غير الله، لأنها ليست بعبادة، وهذا يناسب السجدة عند قراءته مناسبة أشد وأتم مما إذا حملناه على العموم.
والحمد لله رب العالمين، وصلاته على سيدنا محمد سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٢٨٨
٢٩٠


الصفحة التالية
Icon