المسألة الثانية : لم يقل كذبوا هوداً كما قال :﴿فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا﴾ (القمر : ٩) وذلك لوجهين أحدهما : أن تكذيب نوح كان أبلغ وأشد حيث دعاهم قريباً من ألف سنة وأصروا على التكذيب، ولهذا ذكر الله تعالى تكذيب نوح في مواضع ولم يذكر تكذيب غير نوح صريحاً وإن نبه عليه (في) واحد منها في الأعراف قال :﴿فَأَنجَيْنَـاهُ وَالَّذِينَ مَعَه فِي الْفُلْكِ﴾ (الأعراف : ٦٤) وقال حكاية عن نوح :﴿قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ﴾ (الشعراء : ١١٧) وقال :﴿إِنَّهُمْ عَصَوْنِى﴾ (نوح : ٢١) وفي هذه المواضع لم يصرح بتكذيب قوم غيره منهم إلا قليلاً ولذلك قال تعالى في مواضع ذكر شعيب فكذبوه : وقال ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا﴾ (الأعراف : ٩٢) وقال تعالى عن قومه :﴿وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَـاذِبِينَ﴾ (الأعراف : ٦٦) لأنه دعا قومه زماناً مديداً وثانيهما : أن حكاية عاد مذكورة ههنا على سبيل الاختصار فلم يذكر إلا تكذيبهم وتعذيبهم فقال :﴿كَذَّبَتْ عَادٌ﴾ كما قال :﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ ولم يذكر دعاءه عليهم وإجابته كما قال في نوح.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٠٥
المسألة الثالثة : قال تعالى :﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ﴾ قبل أن بين العذاب وفي حكاية نوح بين العذاب، ثم قال :﴿فَكَيْفَ كَانَ﴾ فما الحكمة فيه ؟
نقول : الاستفهام الذي ذكره في حكاية نوح / مذكور ههنا، وهو قوله تعالى :﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ﴾ كما قال من قبل ومن بعد في حكاية ثمود غير أنه تعالى حكى في حكاية عاد ﴿فَكَيْفَ كَانَ﴾ مرتين، المرة الأولى استفهم ليبين كما يقول المعلم لمن لا يعرف كيف المسألة الفلانية ليصير المسئول سائلاً، فيقول : كيف هي فيقول إنها كذا وكذا فكذلك ههنا قال :﴿كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى﴾ فقال السامع : بين أنت فإني لا أعلم فقال :﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَا﴾ (القمر : ١٩) وأما المرة الثانية فاستفهم للتعظيم كما يقول القائل للعارف المشاهد كيف فعلت وصنعت فيقول : نعم ما فعلت ويقول : أتيت بعجيبة فيحقق عظمة الفعل بالاستفهام، وإنما ذكر ههنا المرة الأولى ولم يذكر في موضع آخر لأن الحكاية ذكرها مختصرة فكان يفوت الاعتبار بسبب الاختصار فقال :﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى﴾ حثاً على التدبر والتفكر، وأما الاختصار في حكايتهم فلأن أكثر أمرهم الاستكبار والاعتماد على القوة وعدم الالتفات إلى قول النبي صلى الله عليه وسلّم، ويدل على قوله تعالى :﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾ (فصلت : ١٥) وذكر استكبارهم كثيراً، وما كان قوم محمد صلى الله عليه وسلّم مبالغين في الاستكبار وإنما كانت مبالغتهم في التكذيب ونسبته إلى الجنون، وذكر حالة نوح على التفصيل فإن قومه جمعوا بين التكذيب والاستكبار، وكذلك حال صالح عليه السلام ذكرها على التفصيل لشدة مناسبتها بحال محمد صلى الله عليه وسلّم.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٠٥
٣٠٥
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال تعالى :﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى﴾ بتوحيد الضمير هناك ولم يقل عذابنا، وقال : ههنا ﴿إِنَّآ﴾، ولم يقل إني، والجواب ما ذكرناه في قوله تعالى :﴿فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ﴾ (القمر : ١١).


الصفحة التالية
Icon