وقد تقدم تفسيره غير أنه في قصة عاد قال :﴿كَذَّبَتْ﴾ (القمر : ١٨) ولم يقل : بالنذر، وفي قصة نوح قال :﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الشعراء : ١٠٥) فنقول : هذا يؤيد ما ذكرنا من أن المراد بقوله :﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ (القمر : ٩) أن عادتهم ومذهبهم إنكار الرسل وتكذيبهم فكذبوا نوحاً بناء على مذهبهم وإنما صرح ههنا لأن كل قوم يأتون بعد قوم وأتاهما رسولان فالمكذب المتأخر يكذب المرسلين جميعاً حقيقة والأولون يكذبون رسولاً واحداً حقيقة ويلزمهم تكذيب من بعده بناء على ذلك لأنهم لما كذبوا من تقدم في قوله : الله تعالى واحد، والحشر كائن، ومن أرسل بعده كذلك قوله ومذهبه لزم منه أن يكذبوه ويدل على هذا أن الله تعالى قال في قوم نوح :﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَـاهُ﴾ (الأعراف : ٦٤) وقال في عاد :﴿عَادٌا جَحَدُوا بِـاَايَـاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَه وَاتَّبَعُوا ﴾ (هود : ٥٩) وأما قوله تعالى :﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الشعراء : ١٠٥) فإشارة إلى أنهم كذبوا وقالوا ما يفضي إلى تكذيب جميع المرسلين، ولهذا ذكره بلفظ الجمع المعرف للاستغراق، ثم إنه تعالى قال هناك عن نوح :﴿رَبِّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ﴾ (الشعراء : ١١٧) ولم يقل : كذبوا رسلك إشارة إلى ما صدر منهم حقيقة لا أن ما ألزمهم لزمه. إذا عرفت هذا فلما سبق قصة ثمود ذكر رسولين ورسولهم ثالثهم قال :﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ﴾ هذا كله إذا قلنا إن النذر جمع نذير بمعنى منذر، أما إذا قلنا إنها الإنذارات فنقول : قوم نوح وعاد لم تستمر المعجزات التي ظهرت في زمانهم، وأما ثمود فأنذروا وأخرج لهم ناقة من صخرة وكانت تدور بينهم وكذبوا فكان تكذيبهم بإنذارات وآيات ظاهرة فصرح بها، وقوله :﴿فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُه ﴾ (القمر : ٢٤) يؤيد الوجه الأول، لأن من يقول لا أتبع بشراً مثلي وجميع المرسلين من البشر يكون مكذباً للرسل والباء في قوله ﴿بِالنُّذُرِ﴾ يؤيد الوجه الثاني لأنا بينا أن الله تعالى في تكذيب الرسل عدى التكذيب بغير حرف فقال :﴿كَذَّبُوه ﴾ (الأعراف : ٦٤) ﴿وَكَذَّبُوا ﴾ (غافر : ٧٠) ﴿فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا﴾ (القمر : ٩) (المؤمنون : ٢٦) وقال :﴿وَكَذَّبُوا بِـاَايَـاتِنَآ﴾ (الأنفال : ٥٤) (البقرة : ٣٩) فعدى بحرف لأن التكذيب هو النسبة إلى الكذب والقائل هو الذي يكون كاذباً حقيقة والكلام والقول يقال فيه كاذب مجازاً وتعلق التكذيب بالقائل أظهر فيستغني عن الحرف بخلاف القول، وقد ذكرنا ذلك وبيناه بياناً شافياً.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٠٨
٣٠٨
وفي قوله تعالى :﴿بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُه ﴾ مسائل :
المسألة الأولى : زيداً ضربته وزيد ضربته كلاهما جائز والنصب مختار في مواضع منها هذا الموضع وهو الذي يكون ما يرد عليه النصب والرفع بعد حرف الاستفهام، والسبب في اختيار النصب أمر معقول وهو أن المستفهم يطلب من المسئول أن يجعل ما ذكره بعد حرف الاستفهام مبدأ لكلامه ويخبر عنه، فإذا قال : أزيد عندك معناه أخبرني عن زيد واذكر لي حاله، فإذا انضم إلى هذه الحالة فعل مذكور ترجح جانب النصب فيجوز أن يقال : أزيداً ضربته وإن لم يجب فالأحسن ذلك فإن قيل : من قرأ ﴿أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُه ﴾ كيف ترك الأجود ؟
نقول : نظراً إلى قوله تعالى :﴿فَقَالُوا ﴾ إذ ما بعد القول لا يكون إلا جملة والاسمية أولى والأولى أقوى وأظهر.


الصفحة التالية
Icon