المسألة الرابعة :﴿الْكَذَّابُ﴾ فعال من فاعل للمبالغة أو يقال : بل من فاعل كخياط وتمار ؟
نقول : الأول هو الصحيح الأظهر على أن الثاني من باب الأولى لأن المنسوب إلى الشيء لا بد له من أن يكثر من مزاولة الشيء فإن من خاط يوماً ثوبه مرة لا يقال له خياط، إذا عرفت هذا فنقول المبالغة إما في الكثرة، وإما في الشدة فالكذاب، إما شديد الكذب يقول مالا يقبله العقل أو كثير الكذب، ويحتمل أن يكونوا وصفوه به لاعتقادهم الأمرين فيه وقولهم :﴿أَشِرٌ﴾ إشارة إلى أنه كذب لا لضرورة وحاجة إلى خلاص كما يكذب الضعيف، وإنما هو استغنى وبطر وطلب الرياسة عليكم وأراد اتباعكم له فكان كل وصف مانعاً من الاتباع لأن الكاذب لا يلتفت إليه، ولا سيما إذا كان كذبه لا لضرورة، وقرىء :﴿أَشِرٌ﴾ فقال المفسرون : هذا على الأصل المرفوض في الأشر والأخير على وزن أفعل التفضيل، وإنما رفض الأصل فيه لأن أفعل إذا فسر قد يفسر بأفعل أيضاً والثاني بأفعل ثالث، مثاله إذا قال : ما معنى الأعلم ؟
يقال : هو الأكثر علماً فإذا قيل : الأكثر ماذا ؟
فيقال : الأزيد عدداً أو شيء مثله فلا بد من أمر يفسر به الأفعل لا بمن بابه فقالوا : أفعل التفضيل والفضيلة أصلها الخير والخير أصل في باب أفعل فلا يقال : فيه أخير، ثم إن الشر في مقابلة الخير يفعل به ما يفعل بالخير فيقال هو شر من كذا وخير من كذا والأشر في مقابلة الأخير، ثم إن خيراً يستعمل في موضعين : أحدهما : مبالغة الخير بفعل أو أفعل على اختلاف يقال : هذا خير وهذا أخير ويستعمل في مبالغة خير على المشابهة لا على الأصل فمن يقول : أشر يكون قد ترك الأصل المستعمل لأنه أخذ في الأصل المرفوض بمعنى هو شر من غيره وكذا معنى الأعلم أن علمه خير من علم غيره، أو هو خير من غرة الجهل كذلك القول في الأضعف وغيره.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣١٠
٣١١
فإن قال قائل : سيعلم للاستقبال ووقت أنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلّم كانوا قد علموا، لأن بعد الموت تتبين الأمور وقد عاينوا ما عاينوا فكيف القول فيه ؟
نقول : فيه وجهان أحدهما : أن يكون هذا القول مفروض الوقوع في وقت قولهم : بل هو كذاب أشر، فكأنه تعالى قال يوم قالوا : بل هو كذاب أشر سيعلمون غداً وثانيهما : أن هذا التهديد بالتعذيب لا بحصول العلم بالعذاب الأليم وهو عذاب جهنم لا عذاب القبر فهم سيعذبون يوم القيامة وهو مستقبل وقوله تعالى :﴿غَدًا﴾ لقرب الزمان في الإمكان والأذهان / ثم إن قلنا : إن ذلك للتهديد بالتعذيب لا للتكذيب فلا حاجة إلى تفسيره بل يكون ذلك إعادة لقولهم من غير قصد إلى معناه، وإن قلنا : هو للرد والوعد ببيان انكشاف الأمر فقوله تعالى :﴿سَيَعْلَمُونَ غَدًا﴾ معناه سيعلمون غداً أنهم الكاذبون الذين كذبوا لا لحاجة وضرورة، بل بطروا وأشروا لما استغنوا، وقوله تعالى :﴿غَدًا﴾ يحتمل أن يكون المراد يوم القيامة، ويحتمل أن يكون المراد يوم العذاب وهذا على الوجه الأول.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣١١
٣١١
وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon