أي ذلك الإنجاء كان فضلاً منا كما أن ذلك الإهلاك كان عدلاً ولو أهلكوا لكان ذلك عدلاً، قال تعالى :﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَآصَّةً ﴾ (الأنفال : ٢٥) قال الحكماء العضو الفاسد يقطع ولا بد أن يقطع معه جزء من الصحيح ليحصل استئصال الفساد، غير أن الله تعالى قادر على التمييز التام فهو مختار إن شاء أهلك من آمن وكذب، ثم يثبت الذين أهلكهم من المصدقين في دار الجزاء وإن شاء أهلك من كذب، فقال : نعمة من عندنا إشارة إلى ذلك وفي نصبها وجهان أحدهما : أنه مفعول له كأنه قال : نجيناهم نعمة منا ثانيهما : على أنه مصدر، لأن الإنجاء منه إنعام فكأنه تعالى قال : أنعمنا عليهم بالإنجاء إنعاماً وقوله تعالى :﴿كَذَالِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ﴾ فيه وجهان أحدهما : ظاهر وعليه أكثر المفسرين وهو أنه من آمن كذلك ننجيه من عذاب الدنيا ولا نهلكه وعداً لأمة محمد صلى الله عليه وسلّم بأنه يصونهم عن الإهلاكات العامة والسيئات المطبقة الشاملة وثانيهما : وهو الأصح أن ذلك وعد لهم وجزاؤهم بالثواب في دار الآخرة كأنه قال : كما نجيناهم في الدنيا، أي كما أنعمنا عليهم ننعم عليهم يوم الحساب والذي يؤيد هذا أن النجاة من الإهلاكات في الدنيا ليس بلازم، ومن عذاب الله في الآخرة لازم بحكم الوعيد، وكذلك ينجي الله الشاكرين من عذاب النار ويذر الظالمين فيه، ويدل عليه قوله تعالى :﴿وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِه مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِه مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّـاكِرِينَ﴾ (آل عمران : ١٤٥) وقوله تعالى :﴿فَأَثَـابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا وَذَالِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ﴾ (المائدة : ٨٥) والشاكر محسن فعلم أن المراد جزاؤهم في الآخرة.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣١٧
٣١٨
وفيه تبرئة لوط عليه السلام وبيان أنه أتى بما عليه فإنه تعالى لما رتب التعذيب على التكذيب وكان من الرحمة أن يؤخره ويقدم عليه الإنذارات البالغة بين ذلك فقال : أهلكناهم وكان قد أنذرهم من قبل، وفي قوله :﴿بَطْشَتَنَا﴾ وجهان أحدهما : المراد البطشة التي وقعت وكان يخوفهم بها، ويدل عليه قوله تعالى :﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا﴾ (القمر : ٣٤) فكأنه قال : إنا أرسلنا عليهم ما سبق، ذكرها للإندار بها والتخويف وثانيهما : المراد بها ما في الآخرة كما في قوله تعالى :﴿يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى ﴾ (الدخان : ١٦) وذلك لأن الرسل كلهم كانوا ينذرون قومهم بعذاب الآخرة كما قال تعالى :﴿فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى ﴾ (الليل : ١٤) وقال :﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الازِفَةِ﴾ (غافر : ١٨) وقال تعالى :﴿إِنَّآ أَنذَرْنَـاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا﴾ (النبأ : ٤٠) إلى غير ذلك، وعلى ذلك ففيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال :﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ (البروج : ١٢) وقال ههنا :﴿بَطْشَتَنَا﴾ ولم يقل : بطشنا وذلك لأن قوله تعالى :﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ بيان لجنس بطشه، فإذا كان جنسه شديداً فكيف الكبرى منه، وأما لوط عليه السلام فذكر لهم البطشة الكبرى لئلا يكون مقصراً في التبليغ، وقوله تعالى :﴿فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ﴾ يدل على أن النذر هي الإنذارات.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣١٨
٣١٨
والمراودة من الرود، ومنه الإرادة وهي قريبة من المطالبة غير أن المطالبة تستعمل في العين يقال : طالب زيد عمراً بالدراهم، والمراودة لا تستعمل إلا في العمل يقال : راوده عن المساعدة، ولهذا تعدى المراودة إلى مفعول ثان بعن، والمطالبة بالباء، وذلك لأن الشغل منوط باختيار الفاعل، والعين قد توجد من غير اختيار منه وهذا فرق الحال، فإذا قلت : أخبرني بأمره تعين عليه الخبر العين بخلاف ما إذا قيل عن كذا، ويزيد هذا ظهوراً قول القائل : أخبرني زيد عن مجيء فلان، وقوله : أخبرني بمجيئه فإن من قال عن مجيئه ربما يكون الإخبار عن كيفية المجيء لا عن نفسه وأخبرني بمجيئه لا يكون إلا عن نفس المجيء والضيف يقع على الواحد والجماعة، وقد ذكرناه في سورة الذاريات وكيفية المراودة مذكورة فيما تقدم، وهي أنهم كانوا مفسدين وسمعوا يضيف دخلوا على لوط فراودوه عنهم. وقوله :﴿فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ﴾ نقول : إن جبريل كان فيهم فضرب ببعض جناحه على وجوههم فأعماهم، وفي الآية مسائل :


الصفحة التالية
Icon