المسألة الأولى : في حسن الترتيب وذلك لأن المستحق لذاته أقرب إلى الخلاص من المرحوم، فإن المستحق لم يوجد فيه سبب العذاب والمرحوم وجد فيه ذلك، ووجد المانع من العذاب، وما لا سبب له لا يتحقق أصلاً، وماله مانع ربما لا يقوى المانع على دفع السبب، وما في نفس المعذب من المانع أقوى من الذي بسبب الغير، لأن الذي من عنده يمنع الداعية ولا يتحقق الفعل عند عدم الداعية، والذي من الغير بسبب التمتع لا يقطع قصده بل يجتهد وربما يغلب فيكون تعذيبه أضعاف ما كان من قبل، بخلاف من يرق له قلبه وتمنعه الرحمة فإنها وإن لم تمنعه / لكن لا يزيد في حمله وحبسه وزيادته في التعذيب عند القدرة، فهذا ترتيب في غاية الحسن.
المسألة الثانية :﴿جَمِيعٌ﴾ فيه فائدتان إحداهما الكثرة والأخرى الاتفاق، كأنه قال : نحن كثير متفقون فلنا الانتصار ولا يقوم غير هذه اللفظة مقامها من الألفاظ المفردة، إنما قلنا : إن فيه فائدتين لأن الجمع يدل على الجماعة بحروفه الأصلية من ج م ع وبوزنه وهو فعيل بمعنى مفعول على أنهم جمعوا جمعيتهم العصبية، ويحتمل أن يقال : معناه نحن الكل لا خارج عنا إشارة إلى أن من اتبع النبي صلى الله عليه وسلّم لا اعتداد به قال تعالى في نوح :﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الارْذَلُونَ﴾ (الشعراء : ١١١) ﴿إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْىِ﴾ (هود : ٢٧) وعلى هذا ﴿جَمِيعٌ﴾ يكون التنوين فيه لقطع الإضافة كأنهم قالوا : نحن جمع الناس.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٢٣
المسألة الثالثة : ما وجه إفراد المنتصر مع أن نحن ضمير الجمع ؟
نقول : على الوجه الأول ظاهر لأنه وصف الجزء الآخر الواقع خبراً فهو كقول القائل : أنتم جنس منتصر وهم عسكر غالب والجميع كالجنس لفظه لفظ واحد، ومعناه جمع فيه الكثرة، وأما على الوجه الثاني فالجواب عنه من وجهين أحدهما : أن المعنى وإن كان جميع الناس لا خارج عنهم إلا من لا يعتد به، لكن لما قطع ونون صار كالمنكر في الأصل فجاز وصفه بالمنكر نظراً إلى اللفظ فعاد إلى الوجه الأول وثانيهما : أنه خبر بعد خبر، ويجوز أن يكون أحد الخبرين معرفة والآخرين نكرة، قال تعالى :﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ (البروج : ١٤ ـ ١٦) وعلى هذا فقوله :﴿نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ﴾ أفرده لمجاورته ﴿جَمِيعٌ﴾، ويحتمل أن يقال معنى :﴿نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ﴾ أن جميعاً بمعنى كل واحد كأنه قال : نحن كل واحد منا منتصر، كما تقول : هم جميعهم أقوياء بمعنى أن كل واحد منهم قوي، وهم كلهم علماء أي كل واحد عالم فترك الجمع واختار الإفراد لعود الخبر إلى كل واحد فإنهم كانوا يقولون : كل واحد منا يغلب محمداً صلى الله عليه وسلّم كما قال أبي بن خلف الجمحي وهذا فيه معنى لطيف وهو أنهم ادعوا أن كل واحد غالب، والله رد عليهم بأجمعهم بقوله :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٢٣
٣٢٥
وهو أنهم ادعوا القوة العامة بحيث يغلب كل واحد منهم محمداً صلى الله عليه وسلّم والله تعالى بين ضعفهم الظاهر الذي يعمهم جميعهم بقوله :﴿وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ وحينئذ يظهر سؤال وهو أنه قال :﴿وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ ولم يقل : يولون الأدبار. وقال في موضع آخر :﴿يُوَلُّوكُمُ الادْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ﴾ (آل عمران : ١١١) وقال :﴿وَلَقَدْ كَانُوا عَـاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الادْبَـارَ ﴾ (الأحزاب : ١٥) وقال في موضع آخر :﴿فَلا تُوَلُّوهُمُ الادْبَارَ﴾ فكيف تصحيح الإفراد وما الفرق بين المواضع ؟
نقول : أما التصحيح فظاهر لأن قول القائل : فعلوا كقوله فعل هذا وفعل ذاك وفعل الآخر. قالوا : وفي الجمع تنوب مناب الواوات التي في العطف، وقوله :﴿يُوَلُّونَ﴾ بمثابة يول هذا / الدبر، ويول ذاك ويول الآخر أي كل واحد يولي دبره، وأما الفرق فنقول اقتضاء أواخر الآيات حسن الإفراد، فقوله :﴿وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ إفراده إشارة إلى أنهم في التولية كنفس واحدة، فلا يتخلف أحد عن الجمع ولا يثبت أحد للزحف فهم كانوا في التولية كدبر واحد، وأما في قوله :﴿فَلا تُوَلُّوهُمُ الادْبَارَ﴾ أي كل واحد يوجد به ينبغي أن يثبت ولا يولي دبره، فليس المنهي هناك توليتهم بأجمعهم بل المنهي أن يولي واحد منهم دبره، فكل أحد منهي عن تولية دبره، فجعل كل واحد برأسه في الخطاب ثم جمع الفعل بقوله :﴿فَلا تُوَلُّوهُمُ﴾ ولا يتم إلا بقوله :﴿الادْبَارَ﴾ وكذلك في قوله :﴿وَلَقَدْ كَانُوا عَـاهَدُوا اللَّهَ﴾ (لأحزاب : ١٥) أي كل واحد قال : أنا أثبت ولا أولي دبري، وأما في قوله :﴿لَيُوَلُّنَّ الادْبَـارَ﴾ (الحشر : ١٢) فإن المراد المنافقون الذين وعدوا اليهود وهم متفرقون بدليل قوله تعالى :﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾ (الحشر : ١٤)، وأما في هذا الموضع فهم كانوا يداً واحدة على من سواهم.
[بم ثم قال تعالى :


الصفحة التالية
Icon