وفيه لطيفة : وهي أن الله تعالى جعل الإيجاد الذي هو من الرحمة بيده، والإهلاك يسلط عليه رسله وملائكته، وجعل الموت بيد ملك الموت ولم يجعل الحياة بيد ملك، وهذا مناسب لهذا الموضع لأنه بين النعمة بقوله :﴿إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَـاهُ بِقَدَرٍ﴾ (القمر : ٤٩) وبين قدرته على النقمة فقال :﴿وَمَآ أَمْرُنَآ إِلا وَاحِدَةٌ﴾. ﴿وَإِنَّا عَلَى ذَهَابا بِه لَقَـادِرُونَ﴾ (المؤمنون : ١٨) وهو كقوله :﴿فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ﴾ (المؤمنون : ٢٧) عند العذاب، وقوله تعالى :﴿فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَـالِحًا﴾ (هود : ٦٦) وقوله تعالى :﴿فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَـالِيَهَا سَافِلَهَا﴾ (هود : ٨٢) وكما ذكر في هذه الحكايات العذاب بلفظ الأمر وبين الإهلاك به كذلك ههنا / ولا سيما إذا نظرت إلى ما تقدم من الحكايات ووجدتها عين تلك الحكايات يقوي هذا القول وكذلك قوله تعالى :﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ (القمر : ٥١) يدل على صحة هذا القول تاسعها : في معنى اللمح بالبصر وجهان أحدهما : النظر بالعين يقال : لمحته ببصري كما يقال : نظرت إليه بعيني والباء حينئذ كما يذكر في الآيات فيقال : كتبت بالقلم، واختار هذا المثال لأن النظر بالعين أسرع حركة توجد في الإنسان لأن العين وجد فيها أمور تعين على سرعة الحركة أحدها : قرب المحرك منها فإن المحرك العصبية ومنبتها الدماغ والعين في غاية القرب منه ثانيها : صغر حجمها فإنها لا تعصى على المحرك ولا تثقل عليه بخلاف العظام ثالثها : استدارة شكلها فإن دحرجة الكرة أسهل من دحرجة المربع والمثلث رابعها : كونها في رطوبة مخلوقة في العضو الذي هو موضعها وهذه الحكمة في أن المرئيات في غاية الكثرة بخلاف المأكولات والمسموعات والمقاصد التي تقصد بالأرجل والمذوقات، فلولا سرعة حركة الآلة التي بها إدراك المبصرات لما وصل إلى الكل إلا بعد طول زمان وثانيهما : اللمح بالبصر معناه البرق يخطف بالبصر ويمر به سريعاً والباء حينئذ للإلصاق لا للاستعانة كقوله : مررت به وذلك في غاية السرعة، وقوله :﴿بِالْبَصَرِ﴾ فيه فائدة وهي غاية السرعة فإنه لو قال : كلمح البرق حين برق ويبتدىء حركته من مكان وينتهي إلى مكان آخر في أقل زمان يفرض لصح، لكن مع هذا فالقدر الذي مروره يكون بالبصر أقل من الذي يكون من مبتداه إلى منتهاه، فقال :﴿كَلَمْح ﴾ لا كما قيل : من المبدأ إلى المنتهى بل القدر الذي يمر بالبصر وهو غاية القلة ونهاية السرعة.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٣٠
٣٣١
والأشياع الأشكال، وقد ذكرنا أن هذا يدل على أن قوله :﴿وَمَآ أَمْرُنَآ إِلا وَاحِدَةٌ﴾ (القمر : ٥٠) تهديد بالإهلاك والثاني ظاهر.
[بم وقوله تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٣١
٣٣٢
إشارة إلى أن الأمر غير مقتصر على إهلاكهم بل الإهلاك هو العاجل والعذاب الآجل الذي هو معد لهم على ما فعلوه، مكتوب عليهم، والزبر هي كتب الكتبة الذين قال تعالى فيهم :﴿كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـافِظِينَ * كِرَامًا كَـاتِبِينَ﴾ (الانفطار : ٩ ـ ١١) و: ﴿فَعَلُوهُ﴾ صفة شيء والنكرة توصف بالجمل.
[بم وقوله تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٣٢
٣٣٥
تعميم للحكم أي ليست الكتابة مقتصرة على ما فعلوه بل ما فعله غيرهم أيضاً مسطور فلا يخرج عن الكتب صغيرة ولا كبيرة، وقد ذكرنا في قوله تعالى :﴿لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَـاوَاتِ وَلا فِى الارْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَالِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِى كِتَـابٍ﴾ (سبأ : ٣) أن في قوله ﴿أَكْبَرَ﴾ فائدة عظيمة وهي أن من يكتب حساب إنسان فإنما يكتبه في غالب الأمر لئلا ينسى فإذا جاء بالجملة العظيمة التي يأمن نسيانها ربما يترك كتابتها ويشتغل بكتابة ما يخاف نسيانه، فلما قال :﴿وَلا أَكْبَرَ﴾ أشار إلى الأمور العظام التي يؤمن من نسيانها أنها مكتوبة أي ليست كتابتنا مثل كتابتكم التي يكون المقصود منها الأمن من النسيان، فكذلك نقول : ههنا وفي قوله :﴿مَالِ هَـاذَا الْكِتَـابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَـاهَا ﴾ (الكهف : ٤٩) وفي جميع هذه المواضع قدم الصغيرة لأنها أليق بالتثبت عند الكتابة فيبتدىء بها حفظاً عن النسيان في عادة الخلق فأجرى الله الذكر على عادتهم، وهذا يؤيد ما ذكرنا من قبل أن كلا وإن كان نكرة يحسن الابتداء به للعموم وعدم الإبهام.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٣٥
٣٣٥
قد ذكرنا تفسير المتقين والجنات في سور منها :﴿الطُّورِ﴾ وأما النهر ففيه قراءات فتح النون والهاء كحجر وهو اسم جنس ويقوم مقام الأنهار وهذا هو الظاهر الأصح وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon