﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ﴾ (ق : ١٧) فإن القعيد بمعنى الجليس والنديم، ثم إذا عرف هذا وقيل للمفسرين الظاهرين فما الفائدة في اختيار لفظ القعيد يدل لفظ الجليس مع أن الجليس أشهر ؟
يكون جوابهم أن آخر الآيات من قوله :﴿حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (ق : ١٦) ﴿لَدَىَّ عَتِيدٌ﴾ (ق : ٢٣) وقوله :﴿جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾ (هود : ٥٩) يناسب القعيد، ولا الجليس وإعجاز القرآن ليس في السجع، وإذا نظرت إلى ما ذكر تبين لك فائدة جليلة معنوية حكمية في وضع اللفظ المناسب لأن القعيد دل على أنهما لا يفارقانه ويداومان الجلوس معه، وهذا هو المعجز وذلك لأن الشاعر يختار اللفظ الفاسد لضرورة الشعر والسجع ويجعل المعنى تبعاً للفظ، والله تعالى بين الحكمة على ما ينبغي وجاء باللفظ على أحسن ما ينبغي، وفائدة أخرى في قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِى الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُم وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا ﴾ (المجادلة : ١١) فإن قوله :﴿فَافْسَحُوا ﴾ إشارة إلى الحركة، وقوله :﴿فَانشُزُوا ﴾ إشارة إلى ترك الجلوس فذكر المجلس إشارة إلى أن ذلك موضع جلوس فلا يجب ملازمته وليس بمقعد حتى لا يفارقونه.
المسألة الثالثة :﴿فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾ وجهان أحدهما : مقعد صدق، أي صالح يقال : رجل صدق للصالح ورجل سوء للفاسد، وقد ذكرناه في سورة :﴿إِنَّا فَتَحْنَا﴾ في قوله تعالى :﴿وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ﴾ (الفتح : ١٢)، وثانيهما : الصدق المراد منه ضد الكذب، وعلى هذا ففيه وجهان الأول : مقعد صدق من أخبر عنه وهو الله ورسوله الثاني : مقعد ناله من صدق فقال : بأن الله واحد وأن محمداً رسوله، وحتمل أن يقال المراد أنه مقعد لا يوجد فيه كذب لأن الله تعالى صادق ويستحيل عليه الكذب ومن وصل إليه امتنع عليه الكذب لأن مظنة الكذب الجهل والواصل إليه، يعلم الأشياء كما هي ويستغني بفضل الله عن أن يكذب ليستفيد بكذبه شيئاً فهو مقعد صدق وكلمة ﴿عِندَ﴾ قد عرفت معناها والمراد منه قرب المنزلة والشأن لا قرب المعنى والمكان، وقوله تعالى :﴿مَلِيكٍ مُّقْتَدِر ﴾ لأن القربة من الملوك لذيذة كلما كان الملك أشد اقتداراً كان المتقرب منه أشد التذاذاً وفيه إشارة إلى مخالفة معنى القرب منه من معنى القرب من الملوك، فإن الملوك يقربون من يكون ممن يحبونه وممن يرهبونه، مخافة أن يعصوا عليه وينحازوا إلى عدوه فيغلبونه، والله تعالى قال :﴿مُّقْتَدِرٍ﴾ لا يقرب أحداً إلا بفضله.
والحمد لله وصلاته على سيدنا محمد خير خلقه وآله وصحبه وسلامه.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٣٩
٣٤٢


الصفحة التالية
Icon