المسألة الرابعة : ما البيان وكيف تعليمه ؟
نقول : من المفسرين من قال : البيان المنطق فعلمه ما ينطق به ويفهم غيره ما عنده، فإن به يمتاز الإنسان عن غيره عن الحيوانات، وقوله :﴿خَلَقَ الانسَـانَ﴾ إشارة إلى تقدير خلق جسمه الخاص/ و﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ إشارة إلى تميزه بالعلم عن غيره. وقد خرج ما ذكرنا أولاً أن البيان هو القرآن وأعاده ليفصل ماذكره إجمالاً بقوله تعالى :﴿عَلَّمَ الْقُرْءَانَ﴾ كما قلنا في المثال حيث يقول القائل : علمت فلاناً الأدب حملته عليه، وعلى هذا فالبيان مصدر أريد به ما فيه المصدر، وإطلاق البيان بمعنى القرآن على القرآن في القرآن كثير، قال تعالى :﴿هَـاذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ﴾ (آل عمران : ١٣٨) وقد سمى الله تعالى القرآن فرقاناً وبياناً والبيان فرقان بين الحق والباطل، فصح إطلاق البيان، وإرادة القرآن.
المسألة الخامسة : كيف صرح بذكر المفعولين في علمه البيان ولم يصرح بهما في علم القرآن نقول : أما إن قلنا : إن المراد من قوله علم القرآن هو أنه علم الإنسان القرآن، فنقول حذفه لعظم نعمة التعليم وقدم ذكره على من علمه وعلى بيان خلقه، ثم فصل بيان كيفية تعليم القرآن، فقال :﴿خَلَقَ الانسَـانَ * عَلَّمَهُ﴾ وقد بين ذلك، وأما إن قلنا : المراد ﴿عَلَّمَ الْقُرْءَانَ﴾ الملائكة فلأن المقصود تعديد النعم على الإنسان ومطالبته بالشكر ومنعه من التكذيب به، وتعليمه للملائكة لا يظهر للإنسان أنه فائدة / راجعة إلى الإنسان وأما تعليم الإنسان فهي نعمة ظاهرة، فقال :﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ أي علم الإنسان تعديداً للنعم عليه ومثل هذا قال في :﴿اقْرَأْ﴾ قال مرة :﴿عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ من غير بيان المعلم، ثم قال مرة أخرى :﴿عَلَّمَ الانسَـانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ وهو البيان، ويحتمل أن يتمسك بهذه الآية على أن اللغات توقيفية حصل العلم بها بتعليم الله.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٤٢
٣٤٣
وفي الترتيب وجوه أحدها : هو أن الله تعالى لما ثبت كونه رحمن وأشار إلى ما هو شفاء ورحمة وهو القرآن ذكر نعمه وبدأ بخلق الإنسان فإنه نعمة جميع النعم به تتم، ولولا وجوده لما انتفع بشيء، ثم بين نعمة الإدراك بقوله :﴿عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ (الرحمن : ٤) وهو كالوجود إذ لولاه لما حصل النفع والانتفاع، ثم ذكر من المعلومات نعمتين ظاهرتين هما أظهر أنواع النعم السماوية وهما الشمس والقمر ولولا الشمس لما زالت الظلمة، ولولا القمر لفات كثير من النعم الظاهرة بخلاف غيرهما من الكواكب فإن نعمها لا تظهر لكل أحد مثل ما تظهر نعمتهما، ثم بين كمال نفعهما في حركتهما بحساب لا يتغير ولو كانت الشمس ثابتة في موضع لما انتفع بها أحد، ولو كان سيرها غير معلوم للخلق لما انتفعوا بالزراعات في أوقاتها وبناء الأمر على الفصول، ثم بين في مقابلتهما نعمتين ظاهرتين من الأرض وهما النبات الذي لا ساق له والذي له ساق، فإن الرزق أصله منه، ولولا النبات لما كان للآدمي رزق إلا ما شاء الله، وأصل النعم على الرزق الدار، وإنما قلنا : النبات هو أصل الرزق لأن الرزق إما نباتي وإما حيواني كاللحم واللبن وغيرهما من أجزاء الحيوان، ولولا النبات لما عاش الحيوان والنبات وهو الأصل وهو قسمان قائم على ساق كالحنطة والشعير والأشجار الكبار وأصول الثمار وغير قائم كالبقول المنبسطة على الأرض والحشيش والعشب الذي هو غذاء الحيوان ثانيها : هو أنه تعالى لما ذكر القرآن وكان هو كافياً لا يحتاج معه إلى دليل آخر قال بعده :﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ﴾ وغيرها من الآيات إشارة إلى أن بعض الناس إن تكن له النفس الزكية التي يغنيها الله بالدلائل التي في القرآن، فله في الآفاق آيات منها الشمس والقمر، وإنما اختارهما للذكر لأن حركتهما بحسبان تدل على فاعل مختار سخرهما على وجه مخصوص، ولو اجتمع من في العالم من الطبيعيين والفلاسفة وغيرهم وتواطئوا أن يثبتوا حركتهما على الممر المعين على الصواب المعين والمقدار المعلوم في البطء والسرعة لما بلغ أحد مراده إلى أن يرجع إلى الحق / ويقول : حركهما الله تعالى كما أراد، وذكر الأرض والسماء وغيرهما إشارة إلى ما ذكرنا من الدلائل العقلية المؤكدة لما في القرآن من الدلائل السمعية ثالثها : هو أنا ذكرنا أن هذه السورة مفتتحة بمعجزة دالة عليها من باب الهيئة فذكر معجزة القرآن بما يكون جواباً لمنكري النبوة على الوجه الذي نبهنا عليه، وذلك هو أنه تعالى أنزل على نبيه الكتاب وأرسله إلى الناس بأشرف خطاب، فقال : بعض المنكرين كيف يمكن نزول الجرم من السماء إلى الأرض وكيف يصعد ما حصل في الأرض إلى السماء ؟
فقال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٤٣