الأول : ما الحكمة في تقديم الفاكهة على القوت ؟
نقول : هو باب الابتداء بالأدنى والارتقاء إلى الأعلى، والفاكهة في النفع دون النخل الذي منه القوت، والتفكه وهو دون الحب الذي عليه المدار في سائر المواضع، وبه يتغذى الأنام في جميع البلاد، فبدأ بالفاكهة ثم ذكر النخل ثم ذكر الحب الذي هو أتم نعمة لموافقته مزاج الإنسان، ولهذا خلقه الله في سائر البلاد وخصص النخل بالبلاد الحارة.
البحث الثاني : ما الحكمة في تنكير الفاكهة وتعريف النخل ؟
وجوابه من وجوه أحدها : أن القوت محتاج إليه في كل زمان متداول في كل حين وأوان فهو أعرف والفاكهة تكون في بعض الأزمان وعند بعض الأشخاص وثانيها : هو أن الفاكهة على ما بينا ما يتفكه به وتطيب به النفس وذلك عند كل أحد بحسب كل وقت شيء، فمن غلب عليه حرارة وعطش، يريد التفكه بالحامض وأمثاله، ومن الناس من يريد التفكه بالحلو وأمثاله، فالفاكهة غير متعينة فنكرها والنخل والحب معتادان معلومان فعرفهما وثالثها : النخل وحدها نعمة عظيمة تعلقت بها منافع كثيرة، وأما الفاكهة فنوع منها كالخوخ والإجاص مثلاً ليس فيه عظيم النعمة كما في النخل، فقال :﴿فَـاكِهَةٍ﴾ بالتنكير ليدل على الكثرة وقد صرح بالكثرة في مواضع أخر فقال :﴿يَدْعُونَ فِيهَا بِفَـاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ﴾ (ص : ٥١) وقال :﴿وَفَـاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ﴾ (الواقعة : ٣٢، ٣٣)، فالفاكهة ذكرها الله تعالى ووصفها بالكثرة صريحاً وذكرها منكرة، لتحمل على أنها موصوفة بالكثرة اللائقة بالنعمة في النوع الواحد منها بخلاف النخل.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٤٨
البحث الثالث : ما الحكمة في ذكر الفاكهة باسمها لا باسم أشجارها، وذكر النخل باسمها لا باسم ثمرها ؟
نقول : قد تقدم بيانه في سورة : يس حيث قال تعالى :﴿مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾ (يس : ٣٤) وهو أن شجرة العنب، وهي الكرم بالنسبة إلى ثمرتها وهي العنب حقيرة، وشجرة النخل بالنسبة إلى ثمرتها عظيمة، وفيها من الفوائد الكثيرة على ماعرف من اتخاذ الظروف منها والانتفاع بجمارها وبالطلع والبسر والرطب وغير ذلك، فثمرتها في أوقات مختلفة كأنها ثمرات مختلفة، فهي أتم نعمة بالنسبة إلى الغير من الأشجار، فذكر النخل باسمه وذكر الفاكهة دون أشجارها، فإن فوائد أشجارها في عين ثمارها.
البحث الرابع : ما معنى :﴿ذَاتُ الاكْمَامِ﴾ ؟
نقول : فيه وجهان أحدهما : الأكمام كل ما يغطي / جمع كم بضم الكاف، ويدخل فيه لحاؤها وليفها ونواها والكل منتفع به، كما أن النخل منتفع بها وأغصانها وقلبها الذي هو الجمار ثانيهما : الأكمام جمع كم بكسر الكاف وهو وعاء الطلع فإنه يكون أولاً في وعاء فينشق ويخرج منه الطلع، فإن قيل على الوجه الأول :﴿ذَاتُ الاكْمَامِ﴾ في ذكرها فائدة لأنها إشارة إلى أنواع النعم، وأما على الوجه الثاني فما فائدة ذكرها ؟
نقول : الإشارة إلى سهولة جمعها والانتفاع بها فإن النخلة شجرة عظيمة لا يمكن هزها لتسقط منها الثمرة فلا بد من قطف الشجرة فلو كان مثل الجميز الذي يقال : إنه يخرج من الشجرة متفرقاً واحدة واحدة لصعب قطافها فقال :﴿ذَاتُ الاكْمَامِ﴾ أي يكون في كم شيء كثير إذا أخذ عنقود واحد منه كفى رجلا واثنين كعناقيد العنب، فانظر إليها فلو كان العنب حباتها في الأشجار متفرقة كالجميز والزعرور لم يمكن جمعه بالهز متى أريد جمعه، فخلقه الله تعالى عناقيد مجتمعة، كذلك الرطب فكونها ﴿ذَاتُ الاكْمَامِ﴾ من جملة إتمام الإنعام.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٤٨
٣٤٩


الصفحة التالية
Icon