﴿رَبِّكُمَا﴾ خطاب مع الإنس والجن يعدد عليهما النعم بل على الإنسان وحده ثانيها : أنه بيان فضل الله تعالى على الإنسان، حيث بين أنه خلق من أصل كثيف كدر، وخلق الجان من أصل لطيف، وجعل الإنسان أفضل من الجان فإنه إذا نظر إلى أصله، علم أنه ما نال الشرف إلا بفضل الله تعالى فكيف يكذب بآلاء الله ثالثها : أن الآية مذكورة لبيان القدرة لا لبيان النعمة، وكأنه تعالى لما بين النعم الثمانية التي ذكرها في أول السورة، فكأنه ذكر الثمانية لبيان خروجها عن العدد الكثير الذي هو سبعة ودخولها في / الزيادة التي يدل عليها الثمانية كما بينا وقلنا إن العرب عند الثامن تذكر الواو إشارة إلى أن الثامن من جنس آخر، فبعد تمام السبعة الأول شرع في بيان قدرته الكاملة، وقال : هو الذي خلق الإنسان من تراب والجان من نار :(فبأي آلاء) الكثيرة المذكورة التي سبقت من السبعة، والتي دلت عليها الثامنة :(تكذبان) وإذا نظرت إلى ما دلت عليه الثمانية وإلى قوله :﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ * فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ يظهر لك صحة ما ذكر أنه بين قدرته وعظمته ثم يقول : فبأي تلك الآلاء التي عددتها أولاً تكذبان، وسنذكر تمامه عند تلك الآيات.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٥٢
٣٥٣
وفيه وجوه أولها مشرق الشمس والقمر ومغربهما، والبيان حينئذ في حكم إعادة ما سبق مع زيادة، لأنه تعالى لما قال :﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ (الرحمن : ٥) دل على أن لهما مشرقين ومغربين، ولما ذكر :﴿خَلَقَ الانسَـانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ (الرحمن : ٣، ٤) دل على أنه مخلوق من شيء فبين أنه الصلصال الثاني : مشرق الشتاء ومشرق الصيف فإن قيل : ما الحكمة في اختصاصهما مع أن كل يوم من ستة أشهر للشمس مشرق ومغرب يخالف بعضها البعض ؟
نقول : غاية انحطاط الشمس في الشتاء وغاية ارتفاعها في الصيف والإشارة إلى الطرفين تتناول ما بينهما فهو كما يقول القائل في وصف ملك عظيم له المشرق والمغرب ويفهم أن له ما بينهما أيضاً الثالث : التثنية إشارة إلى النوعين الحاصرين كما بينا أن كل شيء فإنه ينحصر في قسمين فكأنه قال : رب مشرق الشمس ومشرق غيرها فهما مشرقان فتناول الكل، أو يقال : مشرق الشمس والقمر وما يغرض إليهما العاقل من مشرق غيرهما فهو تثنية في معنى الجمع.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٥٣
٣٥٤
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تعلق الآية بما قبلها فنقول : لما ذكر تعالى المشرق والمغرب وهما حركتان في الفلك ناسب ذلك ذكر البحرين لأن الشمس والقمر يجريان في الفلك كما يجري الإنسان في البحر قال تعالى :﴿وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ (الأنبياء : ٣٣) فذكر البحرين عقيب المشرقين والمغربين ولأن المشرقين والمغربين فيهما إشارة إلى البحر لانحصار البر والبحر بين المشرق والمغرب، لكن البر كان مذكوراً بقوله تعالى :﴿وَالارْضَ وَضَعَهَا﴾ (الرحمن : ١٠) فذكر ههنا مالم يكن مذكوراً. / المسألة الثانية :﴿مَرَجَ﴾، إذا كان متعدياً كان بمعنى خلط أو ما يقرب منه فكيف قال تعالى :﴿مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ﴾ (الرحمن : ١٥) ولم يقل : من ممروج ؟
نقول : مرج متعد ومرج بكسر الراء لازم فالمارج والمريج من مرج يمرج كفرح يفرح، والأصل في فعل أن يكون غريزياً والأصل في الغريزي أن يكون لازماً، ويثبت له حكم الغريزي، وكذلك فعل في كثير من المواضع.


الصفحة التالية
Icon