﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ﴾ وهو المراد من قول المفسرين : أغنى فقيراً وأفقر غنياً، وأعز ذليلاً وأذل عزيزاً، إلى غير ذلك من الأضداد. ثم اعلم أن الضدين ليسا منحصرين في مختلفين بل المثلان في حكمهما فإنهما لا يجتمعان، فمن وجد فيه حركة إلى مكان في زمان لا يمكن أن توجد فيه في ذلك الزمان حركة أخرى أيضاً إلى ذلك المكان، وليس شأن الله مقتصراً على إفقار غنى أو إغناء فقير في يومنا دون إفقاره أو إغنائه أمس/ ولا يمكن أن يجمع في زيد إغناء هو أمسي مع إغناء هو يومي، فالغنى المستمر للغني في نظرنا في الأمر متبدل الحال، فهو أيضاً من شأن الله تعالى، واعلم أن الله تعالى يوصف بكونه : لا يشغله شأن عن شأن، ومعناه أن الشأن الواحد لا يصير مانعاً له تعالى عن شأن آخر كما أنه يكون مانعاً لنا، مثاله : واحد منا إذا أراد تسويد جسم بصبغة يسخنه بالنار أو تبييض جسم يبرده بالماء والماء والنار متضادان إذا طلب منه أحدهما وشرع فيه يصير ذلك مانعاً له من فعل الآخر، وليس ذلك الفعل مانعاً من الفعل لأن تسويد جسم وتبييض آخر لا تنافي بينهما، وكذلك تسخينه وتسويده بصبغة لا تنافي فيه، فالفعل صار مانعاً للفاعل من فعله ولم يصر مانعاً من الفعل، وفي حق الله مالا يمنع الفعل لا يمنع الفاعل، فيوجد تعالى من الأفعال المختلفة مالا يحصر ولا يحصى في آن واحد، أما ما يمنع من الفعل كالذي يسود جسماً في آن لم يمكنه أن يبيضه في ذلك الآن، فهو قد يمنع الفاعل أيضاً وقد لا يمنع ولكن لا بد من منعه للفاعل، فالتسويد لا يمكن معه التبييض، والله تعالى لا يشغله شأن عن شأن أصلاً لكن أسبابه تمنع أسباباً آخر لا تمنع الفاعل. إذا علمت هذا البحث فقد أفادك.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٦٢
٣٦٣
التحقيق في قوله تعالى :﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ * فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ ولنذكر أولاً ما قيل فيه تبركاً بأقوال المشايخ ثم نحققه بالبيان الشافي فنقول : اختلف المفسرون فيه وأكثرهم على أن المراد سنقصدكم بالفعل، وقال بعضهم : خرج ذلك مخرج التهديد على ما هي عادة استعمال الناس / فإن السيد يقول لعبده عند الغضب : سأفرغ لك، وقد يكون السيد فارغاً جالساً لا يمنعه شغل، وأما التحقيق فيه، فنقول : عدم الفراغ عبارة عن أن يكون الفاعل في فعل لا يمكنه معه إيجاد فعل آخر فإن من يخيط يقول : ما أنا بفارغ للكتابة، لكن عدم الفراغ قد يكون لكون أحد الفعلين مانعاً للفاعل من الفعل الآخر، يقال : هو مشغول بكذا عن كذا كما في قول القائل : أنا مشغول بالخياطة عن الكتابة، وقد يكون عدم الفراغ لكون الفعل مانعاً من الفعل لا لكونه مانعاً من الفاعل كالذي يحرك جسماً في زمان لا يمكن تسكينه في ذلك الزمان فهو ليس بفارغ للتسكين، ولكن لا يقال في مثل هذا الوقت أنا مشغول بالتحريك عن التسكين، فإن في مثل هذا الموضع لو كان غير مشغول به بل كان في نفس المحل حركة لا بفعل ذلك الفاعل لا يمكنه التسكين فليس امتناعه منه إلا لاستحالته بالتحريك، وفي الصورة الأولى لولا اشتغاله بالخياطة لتمكن من الكتابة، إذا عرفت هذا صار عدم الفراغ قسمين أحدهما : بشغل والآخر ليس بشغل، فنقول : إذا كان الله تعالى باختياره أوجد الإنسان وأبقاه مدة أرادها بمحض القدرة والإرادة لا يمكن مع هذا إعدامه، فهو في فعل لا يمنع الفاعل لكن يمنع الفعل ومثل هذا بينا أنه ليس بفراغ، وإن كان له شغل، فإذا أوجد ما أراد أولاً ثم بعد ذلك أمكن الإعدام والزيادة في آنه فيتحقق الفراغ لكن لما كان للإنسان مشاهدة مقتصرة على أفعال نفسه وأفعال أبناء جنسه وعدم الفراغ منهم بسبب الشغل يظن أن الله تعالى فارغ فحمل الخلق عليه أنه ليس بفارغ، فيلزم منه الفعل وهو لا يشغله شأن عن شأن يلزمه حمل اللفظ على غير معناه، واعلم أن هذا ليس قولاً آخر غير قول المشايخ، بل هو بيان لقولهم : سنقصدكم، غير أن هذا مبين، والحمد لله على أن هدانا للبيان من غير خروج عن قول أرباب اللسان. واعلم أن أصل الفراغ بمعنى الخلو، لكن ذلك إن كان في المكان فيتسع ليتمكن آخر، وإن كان في الزمان فيتسع للفعل، فالأصل أن زمان الفاعل فارغ عن فعله وغير فارغ لكن المكان مرئي بالخلو فيه، فيطلق الفراغ على خلو المكان في الظرف الفلاني والزمان غير مرئي، فلا يرى خلوه. ويقال : فلان في زمان كذا فارغ لأن فلاناً هو المرئي لا الزمان والأصل أن هذا الزمان من أزمنة فلان فارغ فيمكنه وصفه للفعل فيه، وقوله تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٦٣


الصفحة التالية
Icon