المسألة الثانية : ما المراد من السؤال ؟
نقول : المشهور ما ذكرنا أنهم لا يقال لهم : من المذنب منكم، وهو على هذا سؤال استعلام، وعلى الوجه الثاني سؤال توبيخ أي لا يقال له : لم أذنب المذنب، ويحتمل أن يكون سؤال موهبة وشفاعة كما يقول القائل : أسألك ذنب فلان، أي أطلب منك عفوه، فإن قيل : هذا فاسد من وجوه أحدها : أن السؤال إذا عدى بعن لا يكون إلا بمعنى الاستعلام أو التوبيخ وإذا كان بمعنى لاستعطاء يعدى بنفسه إلى مفعولين فيقال : نسألك العفو والعافية ثانيها : الكلام لا يحتمل تقديراً ولا يمكن تقديره بحيث يطابق الكلام، لأن المعنى يصير كأنه يقول : لا يسأل واحد ذنب أحد بل أحد لا يسأل ذنب نفسه ثالثها : قوله :﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَـاهُمْ﴾ (الرحمن : ٤١) لا يناسب ذلك نقول : أما الجواب عن الأول فهو أن السؤال ربما يتعدى إلى مفعولين غير أنه عند الاستعلام يحذف الثاني ويؤتى بما يتعلق به يقال : سألته عن كذا أي سألته الإخبار عن كذا فيحذف الإخبار ويكتفي بما يدل عليه، وهو الجار والمجرور فيكون المعنى طلبت منه أن يخبرني عن كذا وعن الثاني : أن التقدير لا يسأل إنس ذنبه ولا جان، والضمير يكون عائداً إلى المضمر لفظاً لا معنى، كما نقول : قبلوا أنفسهم، فالضمير في أنفسهم عائد إلى ما في قولك : قتلوا لفظاً لا معنى لأن ما في قتلوا ضمير الفاعل، وفي أنفسهم ضمير المفعول، إذ الواحد لا يقتل نفسه وإنما المراد كل واحد قتل واحداً غيره، فكذلك (كل) إنس لا يسأل (عن) ذنبه أي ذنب إنس غيره، / ومعنى الكلام لا يقال : لأحد اعف عن فلان، لبيان أن لا مسئول في ذلك الوقت من الإنس والجن، وإنما كلهم سائلون الله والله تعالى حينئذ هو المسئول.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٦٩
وأما المعنوية فالأولى : كيف الجمع بين هذا وبين قوله تعالى :﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْـاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (الحجر : ٩٢) وبينه وبين قوله تعالى :﴿وَقِفُوهُم إِنَّهُم مَّسْـاُولُونَ﴾ ؟
(الصافات : ٢٤) نقول : على الوجه المشهور جوابان أحدهما : أن للآخرة مواطن. فلا يسأل في موطن، ويسأل في موطن وثانيهما : وهو أحسن لا يسأل عن فعله أحد منكم، ولكن يسأل بقوله : لم فعل الفاعل فلا يسأل سؤال استعلام، بل يسأل سؤال توبيخ، وأما على الوجه الثاني فلا يرد السؤال، فلا حاجة إلى بيان الجمع.
والثانية : ما الفائدة في بيان عدم السؤال ؟
نقول : على الوجه المشهور فائدته التوبيخ لهم كقوله تعالى :﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَـاـاِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ (عبس : ٤٠، ٤١) وقوله تعالى :﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ (آل عمران : ١٠٦) وعلى الثاني بيان أن لا يؤخذ منهم فدية، فيكون ترتيب الآيات أحسن، لأن فيها حينئذ بيان أن لا مفر لهم بقوله :﴿إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا ﴾ (الرحمن : ٣٣) ثم بيان أن لا مانع عنهم بقوله :﴿فَلا تَنتَصِرَانِ﴾ (الرحمن : ٣٥) ثم بيان أن لا فداء لهم عنهم بقوله : لا يسأل، وعلى الوجه الأخير، بيان أن لا شفيع لهم ولا راحم وفائدة أخرى : وهو أنه تعالى لما بين أن العذاب في الدنيا مؤخر بقوله :﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ﴾ (الرحمن : ٣١) بين أنه في الآخرة لا يؤخر بقدر ما يسأل وفائدة أخرى : وهو أنه تعالى لما بين أن لا مفر لهم بقول :﴿لا تَنفُذُونَ﴾ (الرحمن : ٣٣) ولا ناصر لهم يخلصهم بقوله :﴿فَلا تَنتَصِرَانِ﴾ بين أمراً آخر، وهو أن يقول المذنب : ربما أنجو في ظل خمول واشتباه حال، فقال : ولا يخفى أحد من المذنبين بخلاف أمر الدنيا، فإن الشرذمة القليلة ربما تنجو من العذاب العام بسبب خمولهم.
[بم وقال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٦٩
٣٦٩
اتصال الآيات بما قبلها على الوجه المشهور، ظاهر لا خفاء فيه، إذ قوله :﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ﴾ كالتفسير وعلى الوجه الثاني من أن المعنى لا يسأل عن ذنبه غيره كيف قال : يعرف ويؤخذ وعلى قولنا : لا يسأل سؤال حط وعفو أيضاً كذلك، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : السيما كالضيزى وأصله سومى من السومة وهو يحتمل وجوهاً أحدها : كي على جباههم، قال تعالى :﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ﴾ (التوبة : ٣٥) ثانيها : سواد كما قال تعالى :﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ (آل عمران : ١٠٦) وقال تعالى :﴿وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ﴾ (الزمر : ٦٠) ثالثها : غبرة وقترة.


الصفحة التالية
Icon