والمشهور أن ههنا إضماراً تقديره يقال لهم : هذه جهنم، وقد تقدم مثله في مواضع. ويحتمل أن يقال : معناه هذه صفة جهنم فأقيم المضاف إليه مقام المضاف ويكون ما تقدم هو المشار إليه، والأقوى أن يقال : الكلام عند النواصي والأقدام قد تم، وقوله :﴿هَـاذِه جَهَنَّمُ﴾ لقربها كما يقال هذا زيد قد وصل إذا قرب مكانه، فكأنه قال جهنم التي يكذب بها المجرمون هذه قريبة غير بعيدة عنهم، ويلائمه قوله :﴿يُكَذِّبُ﴾ لأن الكلام لو كان بإضمار يقال، لقال تعالى لهم : هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون لأن في هذا الوقت لا يبقى مكذب، وعلى هذا التقدير يضمر فيه : كان يكذب.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٦٩
٣٧١
هو كقوله تعالى :﴿وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ﴾ (الكهف : ٢٩) وكقوله تعالى :﴿كُلَّمَآ أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَآ أُعِيدُوا فِيهَا﴾ (السجدة : ٢٠) لأنهم يخرجون فيستغيثون فيظهر لهم من بعد شيء مائع هو صديدهم المغلي فيظنونه ماء، فيردون عليه كما يرد العطشان فيقعون ويشربون منه شرب الهيم، فيجدونه أشد حراً فيقطع أمعاءهم، كما أن العطشان إذا وصل إلى ماء مالح لا يبحث عنه ولا يذوقه، وإنما يشربه عباً فيحرق فؤاده ولا يسكن عطشه. وقوله :﴿حَمِيمٍ﴾ إشارة إلى ما فعل فيه من الإغلاء، وقوله تعالى :﴿ءَانٍ﴾ إشارة إلى ما قبله، وهو كما يقال : قطعته فانقطع فكأنه حمته النار فصار في غاية السخونة وآن الماء إذا انتهى في الحر نهاية.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٧١
٣٧١
وفيه بحث وهو أن هذه الأمور ليست من الآلاء فكيف قال :﴿فَبِأَىِّ ءَالاءِ﴾ ؟
نقول : الجواب من وجهين أحدهما : ما ذكرناه وثانيهما : أن المراد :﴿فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا﴾ مما أشرنا إليه في أول السورة. ﴿تُكَذِّبَانِ﴾ فتستحقان هذه الأشياء المذكورة من العذاب، وكذلك نقول : في قوله :﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه جَنَّتَانِ﴾ (الرحمن : ٤٦) هي الجنان ثم إن تلك الآلاء لا ترى، وهذا ظاهر لأن الجنان غير مرئية، وإنما حصل الإيمان بها بالغيب، فلا / يحسن الاستفهام بمعنى الإنكار مثل ما يحسن الاستفهام عن هيئة السماء والأرض والنجم والشجر والشمس والقمر وغيرها مما يدرك ويشاهد، لكن النار والجنة ذكرتا للترهيب والترغيب كما بينا أن المراد فبأيهما تكذبان فتستحقان العذاب وتحرمان الثواب.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٧١
٣٧٢
وفيه لطائف : الأولى : التعريف في عذاب جهنم قال :﴿هَـاذِه جَهَنَّمُ﴾ (الرحمن : ٤٣) والتنكير في الثواب بالجنة إشارة إلى أن كثرة المراتب التي لا تحد ونعمه التي لا تعد، وليعلم أن آخر العذاب جهنم وأول مراتب الثواب الجنة ثم بعدها مراتب وزيادات الثانية : قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى :﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ (ق : ٤٥) أن الخوف خشية سببها ذل الخاشي، والخشية خوف سببه عظمة المخشى، قال تعالى :﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه ﴾ (فاطر : ٢٨) لأنهم عرفوا عظمة الله فخافوه لا لذل منهم، بل لعظمة جانب الله، وكذلك قوله :﴿مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ﴾ (المؤمنون : ٥٧) وقال تعالى :﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَـاذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَه خَـاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّه ﴾ (الحشر : ٢١) أي لو كان المنزل عليه العالم بالمنزل كالجبل العظيم في القوة والارتفاع لتصدع من خشية الله لعظمته، وكذلك قوله تعالى :﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَـاـاه ﴾ (الأحزاب : ٣٧) وإنما قلنا : إن الخشية تدل على ما ذكرنا لأن الشيخ للسيد والرجل الكبير يدل على حصول معنى العظمة في خ ش ي، وقال تعالى في الخوف :﴿وَلا تَخَفْا سَنُعِيدُهَا﴾ (طه : ٢١) لما كان الخوف يضعف في موسى، وقال :﴿لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ ﴾ (العنكبوت : ٣٣) وقال :﴿فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ﴾ (الشعراء : ١٤) وقال إني :﴿خِفْتُ الْمَوَالِىَ مِن وَرَآءِى﴾ (مريم : ٥) ويدل عليه تقاليب خ وف فإن قولك خفي قريب منه، والخافي فيه ضعف والأخيف يدل عليه أيضاً، وإذا علم هذا فالله تعالى مخوف ومخشي، والعبد من الله خائف وخاش، لأنه إذا نظر إلى نفسه رآها في غاية الضعف فهو خائف، وإذا نظر إلى حضرة الله رآها في غاية العظمة فهو خاش، لكن درجة الخاشي فوق درجة الخائف، فلهذا قال :﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالانْعَـامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُه ﴾
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٧٢


الصفحة التالية
Icon