هي جمع فنن أي ذواتا أغصان أو جمع فن أي فيهما فنون من الأشجار وأنواع من الثمار. فإن قيل : أي الوجهين أقوى ؟
نقول : الأول لوجهين أحدهما : أن الأفنان في جمع فنن هو المشهور والفنون في جمع الفن كذلك، ولا يظن أن الأفنان والفنون جمع فن بل كل واحد منهما جمع معرف بحرف التعريف والأفعال في فعل كثير والفعول في فعل أكثر ثانيهما : قوله تعالى :﴿فِيهِمَا مِن كُلِّ فَـاكِهَةٍ زَوْجَانِ﴾ (الرحمن : ٥٢) مستقل بما ذكر من الفائدة، ولأن ذلك فيما يكون ثابتاً لا تفاوت فيه ذهناً ووجوداً أكثر، فإن قيل : كيف تمدح بالأفنان والجنات في الدنيا ذوات أفنان كذلك ؟
نقول : فيه وجهان أحدهما : أن الجنات في الأصل ذوات أشجار، والأشجار ذوات أغصان، والأغصان ذوات أزهار وأثمار، وهي لتنزه الناظر إلا أن جنة الدنيا لضرورة الحاجة وجنة الآخرة ليست كالدنيا فلا يكون فيها إلا ما فيه اللذة وأما الحاجة فلا، وأصول الأشجار وسوقها أمور محتاج إليها مانعة للإنسان عن التردد في البستان كيفما شاء، فالجنة فيها أفنان عليها أوراق عجيبة، وثمار طيبة من غير سوق غلاظ، ويدل عليه أنه تعالى لم يصف الجنة إلا بما فيه اللذة بقوله :﴿ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ﴾ أي الجنة هي ذات فنن غير كائن على أصل وعرف بل هي واقفة في الجو وأهلها من تحتها والثاني : من الوجهين هو أن التنكير للأفنان للتكثير أو للتعجب.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٧٤
٣٧٦
أي في كل واحدة منهما عين جارية، كما قال تعالى :﴿فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ﴾ وفي كل واحدة منهما من الفواكه نوعان، وفيها مسائل بعضها يذكر عند تفسير قوله تعالى :﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ * فَبِأَى ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا فَـاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ (الرحمن : ٦٦، ٦٨) وبعضها يذكر ههنا.
المسألة الأولى : هي أن قوله :﴿ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ﴾ (الرحمن : ٤٨) و﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ﴾ و﴿فِيهِمَا مِن كُلِّ فَـاكِهَةٍ زَوْجَانِ﴾ كلها أوصاف للجنتين المذكورتين فهو كالكلام الواحد تقديره : جنتان ذواتا أفنان، ثابت فيهما عينان، كائن فيهما من كل فاكهة زوجان، فإن قيل : ما الفائدة في فصل بعضها عن بعض بقوله تعالى :﴿فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ ثلاث مرات مع أنه في ذكر العذاب ما فصل بين كلامين بها حيث قال :﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ﴾ (الرحمن : ٣٥) مع أن إرسال نحاس غير / إرسال شواظ، وقال :﴿يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ﴾ (الرحمن : ٤٤) مع أن الحميم غير الجحيم، وكذا قال تعالى :﴿هَـاذِه جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ (الرحمن : ٤٣) وهو كلام تام، وقوله تعالى :﴿يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ﴾ (الرحمن : ٤٤) كلام آخر ولم يفصل بينهما بالآية المذكورة ؟
نقول : فيه تغليب جانب الرحمة، فإن آيات العذاب سردها سرداً وذكرها جملة ليقصر ذكرها، والثواب ذكره شيئاً فشيئاً، لأن ذكره يطيب للسامع فقال بالفصل وتكرار عود الضمير إلى الجنس بقوله :﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ﴾، ﴿فِيهِمَا مِن كُلِّ فَـاكِهَةٍ﴾ لأن إعادة ذكر المحبوب محبوب، والتطويل بذكر اللذات مستحسن.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٧٦
المسألة الثانية : قوله تعالى :﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ﴾ أي في كل واحدة عين واحدة كما مر، وقوله :﴿فِيهِمَا مِن كُلِّ فَـاكِهَةٍ زَوْجَانِ﴾ معناه كل واحدة منهما زوج، أو معناه في كل واحدة منهما من الفواكه زوجان، ويحتمل أن يكون المراد مثل ذلك أي في كل واحدة من الجنتين زوج من كل فاكهة ففيهما جميعاً زوجان من كل فاكهة، وهذا إذا جعلنا الكنايتين فيهما للزوجين، أو نقول : من كل فاكهة لبيان حال الزوجين، ومثاله إذا دخلت من على ما لا يمكن أن يكون كائناً في شيء كقولك : في الدار من الشرق رجل، أي فيها رجل من الشرق، ويحتمل أن يكون المراد في كل واحدة منها زوجان، وعلى هذا يكون كالصفة بما يدل عليه من كل فاكهة كأنه قال : فيهما من كل فاكهة، أي كائن فيهما شيء من كل فاكهة، وذلك الكائن زوجان، وهذا بين فيما تكون من داخله على ما لا يمكن أن يكون هناك كائن في الشيء غيره، كقولك : في الدار من كل ساكن، فإذا قلنا : فيهما من كل فاكهة زوجان الثالث : عند ذكر الأفنان لو قال : فيهما من كل فاكهة زوجان كان متناسباً لأن الأغصان عليها الفواكه، فما الفائدة في ذكر العينين بين الأمرين المتصل أحدهما بالآخر ؟
نقول : جرى ذكر الجنة على عادة المتنعمين، فإنهم إذا دخلوا البستان لا يبادرون إلى أكل الثمار بل يقدمون التفرج على الأكل، مع أن الإنسان في بستان الدنيا لا يأكل حتى يجوع ويشتهي شهوة مؤلمة فكيف في الجنة فذكر ما يتم به النزهة وهو خضرة الأشجار، وجريان الأنهار، ثم ذكر ما يكون بعد النزهة وهو أكل الثمار، فسبحان من يأتي بالآي بأحسن المعاني في أبين المباني.


الصفحة التالية
Icon