﴿فِيهِنَّ﴾ وأما الدنيا فليس فيها تفرق المساكن دليلاً للعظمة واللذة فقال ﴿فِيهِمَا﴾ (الرحمن : ٥٠) وهذا من اللطائف الثالث : قاصرات الطرف صفة لموصوف حذف، وأقيمت الصفة مكانه، والموصوف النساء أو الأزواج كأنه قال فيهن نساء قاصرات الطرف وفيه لطيفة : فإنه تعالى لم يذكر النساء إلا بأوصافهن ولم يذكر اسم الجنس فيهن، فقال تارة :﴿وَحُورٌ عِينٌ﴾ (الواقعة : ٢٢) / وتارة :﴿عُرُبًا أَتْرَابًا﴾ (الرحمن : ٥٦) وتارة :﴿قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾ (الرحمن : ٥٦) ولم يذكر نساء كذا وكذا لوجهين أحدهما : الإشارة إلى تنحدرهن وتسترهن، فلم يذكرهن باسم الجنس لأن اسم الجنس يكشف من الحقيقة مالا يكشفه الوصف فإنك إذا قلت المتحرك المريد الآكل الشارب لا تكون بينته بالأوصاف الكثيرة أكثر مما بينته بقولك : حيوان وإنسان وثانيهما : إعظاماً لهن ليزداد حسنهن في أعين الموعودين بالجنة فإن بنات الملوك لا يذكرن إلا بالأوصاف.
المسألة الرابعة :﴿قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾ من القصر وهو المنع أي المانعات أعينهن من النظر إلى الغير، أو من القصور، وهو كون أعينهن قاصرة لا طماح فيها للغير، أقول والظاهر أنه من القصر إذ القصر مدح والقصور ليس كذلك، ويحتمل أن يقال : هو من القصر بمعنى أنهن قصرن أبصارهن، فأبصارهن مقصورة وهن قاصرات فيكون من إضافة الفاعل إلى المفعول والدليل عليه هو أن القصر مدح والقصور ليس كذلك، وعلى هذا ففيه لطيفة وهي أنه تعالى قال من بعد هذه :﴿حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ﴾ (الرحمن : ٧٢) فهن مقصورات وهن قاصرات، وفيه وجهان أحدهما : أن يقال : هن قاصرات أبصارهن كما يكون شغل العفائف، وهن قاصرات أنفسهن في الخيام كما هو عادة المخدرات لأنفسهن في الخيام ولأبصارهن عن الطماح وثانيهما : أن يكون ذلك بياناً لعظمتهن وعفافهن وذلك لأن المرأة التي لا يكون لها رادع من نفسها ولا يكون لها أولياء يكون فيها نوع هوان، وإذا كان لها أولياء أعزة امتنعت عن الخروج والبروز، وذلك يدل على عظمتهن، وإذا كن في أنفسهن عند الخروج لا ينظرن يمنة ويسرة فهن في أنفسهن عفائف، فجمع بين الإشارة إلى عظمتهن بقوله تعالى :﴿مَّقْصُورَاتٌ﴾ منعهن أولياؤهن وههنا وليهن الله تعالى، وبين الإشارة إلى عفتهن بقوله تعالى :﴿قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾ ثم تمام اللطف أنه تعالى قدم ذكر ما يدل على العفة على ما يدل على العظمة وذكر في أعلى الجنتين قاصرات وفي أدناهما مقصورات، والذي يدل على أن المقصورات يدل على العظمة أنهن يوصفن بالمخدرات لا بالمتخدرات، إشارة إلى أنهن خدرهن خادر لهن غيرهن كالذي يضرب الخيام ويدلي الستر، بخلاف من تتخذه لنفسها وتغلق بابها بيدها، وسنذكر بيانه في تفسير الآية بعد.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٧٩
المسألة الخامسة :﴿قَـاصِرَاتُ الطَّرْفِ﴾ فيها دلالة عفتهن، وعلى حسن المؤمنين في أعينهن، فيجبن أزواجهن حباً بشغلهن عن النظر إلى غيرهم، ويدل أيضاً على الحياء لأن الطرف حركة الجفن، والحورية لا تحرك جفنها ولا ترفع رأسها.
المسألة السادسة :﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ﴾ فيه وجوه أحدها : لم يفرعهن ثانيها : لم يجامعهن ثالثها : لم يمسسهن، وهو أقرب إلى حالهن وأليق بوصف كمالهن، لكن لفظ الطمث غير ظاهر فيه ولو كان المراد منه المس لذكر اللفظ الذي يستحسن، وكيف وقد قال تعالى :﴿وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ﴾ (البقرة : ٢٣٧) وقال :﴿فَاعْتَزِلُوا ﴾ (البقرة : ٢٢٢) ولم يصرح بلفظ موضوع للوطء، فإن قيل : فما ذكرتم من / الإشكال باق وهو أنه تعالى كنى عن الوطء في الدنيا باللمس كما في قوله تعالى :﴿أَوْ لَـامَسْتُمُ النِّسَآءَ﴾ (النساء : ٤٣) على الصحيح في تفسير الآية وسنذكره، وإن كان على خلاف قول إمامنا الشافعي رضي الله عنه وبالمس في قوله :﴿مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ﴾ (البقرة : ٢٣٧) ولم يذكر المس في الآخرة بطريق الكناية، نقول : إنما ذكر الجماع الدنيا بالكناية لما أنه في الدنيا قضاء للشهوة وأنه يضعف البدن ويمنع من العبادة، وهو في بعض الأوقات قبحه كقبح شرب الخمر، وفي بعض الأوقات هو كالأكل الكثير وفي الآخرة مجرد عن وجوه القبح، وكيف لا والخمر في الجنة معدودة من اللذات وأكلها وشربها دائم إلى غير ذلك، فالله تعالى ذكره في الدنيا بلفظ مجازي مستور في غاية الخفاء بالكناية إشارة إلى قبحه وفي الآخرة ذكره بأقرب الألفاظ إلى التصريح أو بلفظ صريح/ لأن الطمث أدل من الجماع والوقاع لأنهما من الجمع والوقوع إشارة إلى خلوه عن وجوه القبح.
المسألة السابعة : ما الفائدة في كلمة ﴿قَبْلَهُمْ﴾ ؟
قلنا لو قال : لم يطمثهن إنس ولا جان يكون نفياً لطمث المؤمن إياهن وليس كذلك.


الصفحة التالية
Icon