اللطيفة الثانية : هذه الآية تدل على أن العبد محكم في الآخرة كما قال تعالى :﴿لَهُمْ فِيهَا فَـاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ﴾ (يس : ٥٧) وذلك لأنا بينا أن الإحسان هو الإتيان بما هو حسن عند من أتى بالإحسان، لكن الله لما طلب منا العبادة طلب كما أراد، فأتى به المؤمن كما طلب منه، فصار محسناً فهذا يقتضي أن يحسن الله إلى عبده ويأتي بما هو حسن عنده، وهو ما يطلبه كما يريد فكأنه قال :﴿هَلْ جَزَآءُ الاحْسَـانِ﴾ أي هل جزاء من أتى بما طلبته منه على حسب إرادتي إلا أن يؤتى بما طلبه مني على حسب إرادته، لكن الإرادة متعلقة بالرؤية، فيجب بحكم الوعد أن تكون هذه آية دالة على الرؤية البلكفية.
اللطيفة الثالثة : هذه الآية تدل على أن كل ما يفرضه الإنسان من أنواع الإحسان من الله تعالى فهو دون الإحسان الذي وعد الله تعالى به لأن الكريم إذا قال للفقير : افعل كذا ولك كذا ديناراً، وقال لغيره افعل كذا على أن أحسن إليك يكون رجاء من لم يعين له أجراً أكثر من / رجاء من عين له، هذا إذا كان الكريم في غاية الكرم ونهاية الغنى، إذا ثبت هذا فالله تعالى قال : جزاء من أحسن إلى أن أحسن إليه بما يغبط به، وأوصل إليه فوق ما يشتهيه فالذي يعطي الله فوق ما يرجوه وذلك على وفق كرمه وإفضاله.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٨٠
٣٨٠
لما ذكر الجزاء ذكر بعده مثله وهو جنتان أخريان، وهذا كقوله تعالى :﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ (يونس : ٢٦) وفي قوله تعالى :﴿دُونِهِمَا﴾ وجهان أحدهما : دونهما في الشرف، وهو ما اختاره صاحب الكشاف وقال قوله :﴿مُدْهَآمَّتَانِ﴾ مع قوله في الأوليين :﴿ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ﴾ (الرحمن : ٤٨) وقوله في هذه :﴿عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ﴾ مع قوله في الأوليين :﴿عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ﴾ (الرحمن : ٥٠) لأن النضخ دون الجري، وقوله في الأولين :﴿مِن كُلِّ فَـاكِهَةٍ زَوْجَانِ﴾ (الرحمن : ٥٢) مع قوله في هاتين :﴿فَـاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ (الرحمن : ٦٨) وقوله في الأوليين :﴿فُرُشٍ بَطَآاـاِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ﴾ حيث ترك ذكر الظهائر لعلوها ورفعتها وعدم إدراك العقول إياها مع قوله في هاتين :﴿رَفْرَفٍ خُضْرٍ﴾ (الرحمن : ٧٦) دليل عليه، ولقائل أن يقول : هذا ضعيف لأن عطايا الله في الآخرة متتابعة لا يعطي شيئاً بعد شيء إلا ويظن الظان أنه ذلك أو خير منه. ويمكن أن يجاب عنه تقريراً لما اختاره الزمخشري أن الجنتين اللتين دون الأولين لذريتهم اللذين ألحقهم الله بهم ولأتباعهم، ولكنه إنما جعلهما لهم إنعاماً عليهم، أي هاتان الأخريان لكم أسكنوا فيهما من تريدون الثاني : أن المراد دونهما في المكان كأنهم في جنتين ويطلعوا من فوق على جنتين أخريين دونهما، ويدل عليه قوله تعالى ﴿لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ﴾ (الزمر : ٢٠) الآية. والغرف العالية عندها أفنان، والغرف التي دونها أرضها مخضرة، وعلى هذا ففي الآيات لطائف :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٨٠
الأولى : قال في الأوليين :﴿ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ﴾ وقال في هاتين :﴿مُدْهَآمَّتَانِ﴾ أي مخضرتان في غاية الخضرة، وإدهام الشيء أي اسواد لكن لا يستعمل في بعض الأشياء والأرض إذا اخضرت غاية الخضرة تضرب إلى أسود، ويحتمل أن يقال : الأرض الخالية عن الزرع يقال لها : بياض أرض وإذا كانت معمورة يقال لها : سواد أرض كما يقال : سواد البلد، وقال النبي صلى الله عليه وسلّم :"عليكم بالسواد الأعظم ومن كثر سواد قوم فهو منهم" والتحقيق فيه أن ابتداء الألوان هو البياض / وانتهاءها هو السواد، فإن الأبيض يقبل كل لون والأسود لا يقبل شيئاً من الألوان، ولهذا يطلق الكافر على الأسود ولا يطلق على لون آخر، ولما كانت الخالية عن الزرع متصفة بالبياض واللاخالية بالسواد فهذا يدل على أنهما تحت الأوليين مكاناً، فهم إذا نظروا إلى ما فوقهم، يرون الأفنان تظلهم، وإذا نظروا إلى ما تحتهم يرون الأرض مخضرة، وقوله تعالى :﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ﴾ أي فائرتان ماؤهما متحرك إلى جهة فوق، وأما العينان المتقدمتان فتجريان إلى صوب المؤمنين فكلاهما حركتهما إلى جهة مكان أهل الإيمان، وأما قول صاحب الكشاف : النضخ دون الجري فغير لازم لجواز أن يكون الجري يسيراً والنضخ قوياً كثيراً، بل المراد أن النضخ فيه الحركة إلى جهة العلو، والعينان في مكان المؤمنين، فحركة الماء تكون إلى جهتهم، فالعينان الأوليان في مكانهم فتكون حركة مائهما إلى صوب المؤمنين جرياً.
[بم وأما قوله تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٨٠
٣٨٠


الصفحة التالية
Icon