المسألة الأولى : الفاء تدل على التفسير، وبيان ما ورد على التقسيم كأنه قال :(أزواجاً ثلاثة أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة) إلخ، ثم بين حال كل قوم، فقال :﴿مَآ أَصْحَـابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ فترك التقسيم أولاً واكتفى بما يدل عليه، فإنه ذكر الأقسام الثلاثة مع أحوالها، وسبق قوله تعالى :﴿وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَـاثَةً﴾ يغني عن تعديد الأقسام، ثم أعاد كل واحدة لبيان حالها.
المسألة الثانية :﴿الْمَيْمَنَةِ مَآ﴾ هم أصحاب الجنة، وتسميتهم بأصحاب الميمنة إما لكونهم من جملة من كتبهم بأيمانهم، وإما لكون أيمانهم تستنير بنور من الله تعالى، كما قال تعالى :﴿يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـانِهِم﴾ (الحديد : ١٢) وإما لكون اليمين يراد به الدليل على الخير، والعرب تتفاءل بالسانح، و(هو) الذي يقصد جانب اليمين من الطيور والوحوش عند الزجر والأصل فيه أمر حكمي، وهو أنه تعالى لما خلق الخلق كان له في كل شيء دليل على قدرته واختياره، حتى إن في نفس الإنسان له دلائل لا تعد ولا تحصى، ودلائل الاختيار إثبات مختلفين في محلين متشابهين، أو إثبات متشابهين في محلين مختلفين، إذ حال الإنسان من أشد الأشياء مشابهة فإنه مخلوق من متشابه، ثم إنه تعالى أودع في الجانب الأيمن من الإنسان قوة ليست في الجانب الأيسر لو اجتمع أهل العلم على أن يذكروا له مرجحاً غير قدرة الله وإرادته لا يقدرون عليه، فإن كان بعضهم يدعى كياسة وذكاء يقول : إن الكبد في الجانب الأيمن، وبها قوة التغذية، والطحال في الجانب الأيسر، وليس فيه قوة ظاهرة / النفع فصار الجانب الأيمن قوياً لمكان الكبد على اليمين ؟
فنقول : هذا دليل الاختيار لأن اليمين كالشمال، وتخصيص الله اليمين يجعله مكان الكبد دليل الاختيار إذا ثبت أن الإنسان يمينه أقوى من شماله، فضلوا اليمين على الشمال، وجعلوا الجانب الأيمن للأكابر، وقيل : لمن له مكانة هو من أصحاب اليمين، ووضعوا له لفظاً على وزن العزيز، فينبغي أن يكون الأمر على ذلك الوجه كالسميع والبصير، ومالا يتغير كالطويل والقصير، وقيل له : اليمين، وهو يدل على القوة، ووضعوا مقابلته اليسار على الوزن الذي اختص به الاسم المذموم عند النداء بذلك الوزن، وهو الفعال، فإن عند الشتم والنداء بالاسم المذموم يؤتى بهذا الوزن مع البناء على الكسر، فيقال : يا فجار يا فساق يا خباث، وقيل : اليمين اليسار، ثم بعد ذلك استعمل في اليمين، وأما الميمنة فهي مفعلة كأنه الموضع الذي فيه اليمين وكل ما وقع بيمين الإنسان في جانب من المكان، فذلك موضع اليمين فهو ميمنة كقولنا : ملعبة.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٣٩١
المسألة الثالثة : جعل الله تعالى الخلق على ثلاثة أقسام دليل غلبة الرحمة، وذلك لأن جوانب الإنسان أربعة، يمينه وشماله، وخلفه وقدامه، واليمين في مقابلة الشمال والخلف في مقابلة القدام ثم إنه تعالى أشار بأصحاب اليمين إلى الناجين الذين يعطون كتبهم بأيمانهم وهم من أصحاب الجانب الأشرف المكرمون، وبأصحاب الشمال إلى الذين حالهم على خلاف أصحاب اليمين وهم الذين يعطون كتبهم بشمائلهم مهانون وذكر السابقين الذين لا حساب عليهم ويسبقون الخلق من غير حساب بيمين أو شمال، أن الذين يكونون في المنزلة العليا من الجانب الأيمن/ وهم المقربون بين يدي الله يتكلمون في حق الغير ويشفعون للغير ويقضون أشغال الناس وهؤلاء أعلى منزلة من أصحاب اليمين، ثم إنه تعالى لم يقل : في مقابلتهم قوماً يكونون متخلفين مؤخرين عن أصحاب الشمال لا يلتفت إليهم لشدة الغضب عليهم وكانت القسمة في العادة رباعية فصارت بسبب الفضل ثلاثية وهو كقوله تعالى :﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِه وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقُا بِالْخَيْرَاتِ﴾ (فاطر : ٣٢) لم يقل : منهم متخلف عن الكل.
المسألة الرابعة : ما الحكمة في الابتداء بأصحاب اليمين والانتقال إلى أصحاب الشمال ثم إلى السابقين مع أنه في البيان بين حال السابقين ثم أصحاب الشمال على الترتيب والجواب : أن نقول : ذكر الواقعة وما يكون عند وقوعها من الأمور الهائلة إنما يكون لمن لا يكون عنده من محبة الله تعالى ما يكفه مانعاً عن المعصية، وأما الذين سرهم مشغول بربهم فلا يجزنون بالعذاب، فلما ذكر تعالى :﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ (اواقعة : ١١) وكان فيه من التخويف مالا يخفى وكان التخويف بالذين يرغبون ويرهبون بالثواب والعقاب أولى ذكر ما ذكره لقطع العذر لا نفع الخبر، وأما السابقون فهم غير محتاجين إلى ترغيب أو ترهيب فقدم سبحانه أصحاب اليمين الذين يسمعون ويرغبون ثم ذكر السابقين ليجتهد أصحاب اليمين ويقربوا من درجتهم وإن كان لا ينالها أحد إلا بجذب من الله فإن السابق يناله ما يناله بجذب، وإليه الإشارة بقوله : جذبة من جذبات الرحمن خير من عبادة سبعين سنة.


الصفحة التالية
Icon