المسألة الخامسة : قوله :﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ المشهور أن المراد منه : وما نحن بمغلوبين عاجزين عن خلق أمثالكم وإعادتكم بعد تفرق أوصالكم، يقال : فاته الشيء إذا غلبه ولم يقدر عليه ومثله سبقه وعلى هذا نعيد ما ذكرناه من الترتيب، ونقول : إذا كان قوله :﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ﴾ لبيان أنه خلق الحياة وقدر الموت، وهما ضدان وخالق الضدين يكون قادراً مختاراً فقال :﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ عاجزين عن الشيء بخلاف الموجب الذي لا يمكنه من إيقاع كل واحد من الضدين فيسبقه ويفوته، فإن النار لا يمكنها التبريد لأن طبيعتها موجبة للتسخين، وأما إن قلنا بأنه ذكره رداً عليهم حيث قالوا : لو لم يكن الموت من فناء الرطوبات الأصلية وانطفاء الحرارة الغريزية وكان بخلق حكيم مختار ما كان يجوز وقوعه لأن الحكيم كيف يبني ويهدم ويوجد ويعدم فقال :﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ أي عاجزين بوجه من الوجوه التي يستبعدونها من البناء والصائغ فإنه يفتقر في الإيجاد إلى زمان ومكان وتمكين من المفعول وإمكان ويلحقه تعب من تحريك وإسكان والله تعالى يخلق بكن فيكون، فهو فوق ما ذكرنا من المثل من قطع النظر وإعادته في أسرع حين حيث لا يصح من القائل أن يقول : لم قطعت النظر في ذلك الزمان اللطيف الذي لا يدرك ولا يحس بل ربما يكون مدعى القدرة التامة على الشيء في الزمان اليسير بالحركة السريعة يأتي بشيء ثم يبطله ثم يأتي بمثله ثم يبطله يدلك عليه فعل أصحاب خفة اليد، حيث يوهم أنه يفعل شيئاً ثم يبطله، ثم يأتي بمثله إراءة من نفسه القدرة، وعلى هذا فنقول قوله في سورة تبارك :﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ لِيَبْلُوَكُمْ﴾ (الملك : ٢) معناه أمات وأحيا لتعلموا أنه فاعل مختار، فتعبدونه وتعتقدون الثواب والعقاب فيحسن عملكم ولو اعتقدتموه / موجباً لما عملتم شيئاً على هذا التفسير المشهور، والظاهر أن المراد من قوله :﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ حقيقته وهي أنا ما سبقنا وهو يحتمل شيئين أحدهما : أن يكون معناه أنه هو الأول لم يكن قبله شيء وثانيهما : في خلق الناس وتقدير الموت فيهم ما سبق وهو على طريقة منع آخر وفيه فائدتان أما إذا قلنا :﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٢٢
معناه ما سبقنا شيء فهو إشارة إلى أنكم من أي وجه تسلكون طريق النظر تنتهون إلى الله وتقفون عنده ولا تجاوزونه/ فإنكم إن كنتم تقولون : قبل النطفة أب وقبل الأب نطفة فالعقل يحكم بانتهاء النطف والآباء إلى خالق غير مخلوق، وأنا ذلك فإني لست بمسبوق وليس هناك خالق ولا سابق غيري، وهذا يكون على طريقة التدرج والنزول من مقام إلى مقام، والعاقل الذي هداه الله تعالى الهداية القوية يعرف أولاً والذي دونه يعرف بعد ذلك برتبة، والمعاند لا بد من أن يعرف إن عاد إلى عقله بعد المراتب، ويقول : لا بد للكل من إله، وهو ليس بمسبوق فيما فعله، فمعناه أنه فعل ما فعل، ولم يكن لمفعوله مثال، وأما إن قلنا : إنه ليس بمسبوق، وأي حاجة في إعادته له بمثال هو أهون فيكون كقوله تعالى :﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه ﴾ (الروم : ٢٧) ويؤيده قوله تعالى :﴿عَلَى ا أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَـالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ فإن قيل : هذا لا يصح، لأن مثل هذا ورد في سؤال سائل، والمراد ما ذكرنا كأنه قال : وإنا لقادرون على أن نبدل أمثالكم وما نحن بمسبوقين، أي لسنا بعاجزين مغلوبين فهذا دليلنا، وذلك لأن قوله تعالى :﴿إِنَّا لَقَـادِرُونَ﴾ أفاد فائدة انتفاء العجز عنه، فلا بد من أن يكون لقوله تعالى :﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ فائدة ظاهرة، ثم قال تعالى :﴿عَلَى ا أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَـالَكُمْ﴾ في الوجه المشهور، قوله تعالى :﴿عَلَى ا أَن نُّبَدِّلَ﴾ يتعلق بقوله :﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ أي على التبديل، ومعناه وما نحن عاجزين عن التبديل.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٢٢