ذكر بعد دليل الخلق دليل الرزق فقوله :﴿أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ﴾ إشارة إلى دليل الخلق وبه الابتداء، وقوله :﴿أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ﴾ إشارة إلى دليل الرزق وبه البقاء، وذكر أموراً ثلاثة المأكول، والمشروب، وما به إصلاح المأكول، ورتبه ترتيباً فذكر المأكول أولاً لأنه هو الغذاء، ثم المشروب لأن به الاستمراء، ثم النار للتي بها الإصلاح وذكر من كل نوع ما هو الأصل، فذكر من المأكول الحب فإنه هو الأصل، ومن المشروب الماء لأنه هو الأصل، وذكر من المصلحات النار لأن بها إصلاح أكثر الأغذية وأعمها، ودخل في كل واحد منها ما هو دونه، هذا هو الترتيب، وأما التفسير فنقول : الفرق بين الحرث والزرع هو أن الحرث أوائل الزرع ومقدماته / من كراب الأرض، وإلقاء البذر، وسقي المبذور، والزرع هو آخر الحرث من خروج النبات واستغلاظه واستوائه على الساق، فقوله :﴿أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ﴾ أي ما تبتدئون منه من الأعمال أأنتم تبلغونها المقصود أم الله ؟
ولا يشك أحد في أن إيجاد الحب في السنبلة ليس بفعل الناس، وليس بفعلهم إن كان سوى إلقاء البذر والسقي، فإن قيل : هذا يدل على أن الله هو الزارع، فكيف قال تعالى :﴿يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ﴾ (الفتح : ٢٩) وقال النبي صلى الله عليه وسلّم :"الزرع للزارع" قلنا قد ثبت من التفسير أن الحرث متصل بالزرع، فالحرث أوائل الزرع، والزرع أواخر الحرث، فيجوز إطلاق أحدهما على الآخر، لكن قوله :﴿يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ﴾ بدلاً عن قوله : يعجب الحراث، يدل على أن الحارث إذا كان هو المبتدي، فربما يتعجب بما يترتب على فعله من خروج النبات والزارع لما كان هو المنتهى، ولا يعجبه إلا شيء عظيم، فقال :﴿يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ﴾ الذين تعودوا أخذ الحراث، فما ظنك بإعجابه الحراث، وقوله صلى الله عليه وسلّم :"الزرع للزارع" فيه فائدة، لأنه لو قال : للحارث فمن ابتدأ بعمل الزرع وأتى بكراب الأرض وتسويتها يصير حارثاً، وذلك قبل إلقاء البذرة لزرع لمن أتى بالأمر المتأخر وهو إلقاء البذر، أي من له البذر على مذهب أبي حنيفة رحمة الله تعالى عليه وهذا أظهر، لأنه بمجرد الإلقاء في الأرض يجعل الزرع للملقى سواء كان مالكاً أو غاصباً.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٢٣
٤٢٣
وهو تدريج في الإثبات، وبيانه هو أنه لما قال :﴿تَزْرَعُونَه ا أَمْ نَحْنُ الزاَّرِعُونَ﴾ (الواقعة : ٦٤) لم يبعد من معاند أن يقول : نحن نحرث وهو بنفسه يصير زرعاً، لا بفعلنا ولا بفعل غيرنا، فقال تعالى : ولو سلم لكم هذا الباطل هذا الباطل، فما تقولون في سلامته عن الآفات التي تصيبه، فيفسد قبل اشتداد الحب وقبل انعقاده، أو قبل اشتداد الحب وقبل ظهور الحب فيه، فهل تحفظونه منها أو تدفعونها عنه، أو هذا الزرع بنفسه يدفع عن نفسه تلك الآفات، كما تقولون : إنه بنفسه ينبت، ولا يشك أحد أن دفع الآفات بإذن الله تعالى، وحفظه عنها بفضل الله، وعلى هذا أعاده ليذكر أموراً مرتبة بعضها على بعض فيكون الأمر الأول : للمهتدين والثاني : للظالمين والثالث : للمعاندين الضالين فيذكر الأمر الذي لا شك فيه في آخر الأمر إقامة للحجة على الضال المعاند.