المسألة الأولى : قال ههنا :﴿مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّآلِّينَ﴾ وقال من قبل :﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّآلُّونَ الْمُكَذِّبُونَ﴾ وقد بينا فائدة التقديم والتأخير هناك.
المسألة الثانية : ذكر الأزواج الثلاثة في أول السورة بعبارة وأعادهم بعبارة أخرى فقال :﴿فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ (الواقعة : ٨) ثم قال :﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ﴾ (الواقعة : ٢٧) وقال :﴿وَأَصْحَابُ الْمَشْاَمَةِ﴾ (الواقعة : ٩) ثم قال :﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ﴾ (الواقعة : ٤١) وأعادهم ههنا، وفي المواضع الثلاثة ذكر أصحاب اليمين بلفظ واحد أو بلفظين مرتين، أحدهما غير الآخر، وذكر السابقين في أول السورة بلفظ السابقين، وفي آخر السورة بلفظ المقربين، وذكر أصحاب النار في الأول بلفظ ﴿وَأَصْحَابُ الْمَشْاَمَةِ﴾ ثم بلفظ ﴿الشِّمَالِ مَآ﴾ ثم بلفظ ﴿الْمُكَذِّبِينَ﴾ فما الحكمة فيه ؟
نقول : أما السابق فله حالتان إحداهما في الأولى، والأخرى في الآخرة، فذكره في المرة الأولى بماله في الحالة الأولى، وفي الثانية بماله في الحالة الآخرة، وليس له حالة هي واسطة بين الوقوف للعرض وبين الحساب، بل هو ينقل من الدنيا إلى أعلى عليين، ثم ذكر أصحاب اليمين بلفظين متقاربين، لأن حالهم قريبة من حال السابقين، وذكر الكفار بألفاظ ثلاثة كأنهم في الدنيا ضحكوا عليهم بأنهم أصحاب موضع شؤم، فوصفوهم بموضع الشؤم، فإن المشأمة مفعلة وهي الموضع، ثم قال :﴿الشِّمَالِ مَآ﴾ فإنهم في الآخرة يؤتون كتابهم بشمالهم، ويقفون في موضع هو شمال، لأجل كونهم من أهل النار، ثم إنه تعالى لما ذكر حالهم في أول الحشر بكونهم من أصحاب الشمال ذكر ما يكون لهم من السموم والحميم، ثم لم يقتصر عليه، ثم ذكر السبب فيه، فقال :﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَالِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ﴾ (الواقعة : ٤٥، ٤٦) فذكر سبب العقاب لما بينا مراراً أن العادل يذكر للعقاب سبباً، والمتفضل لا يذكر للإنعام والتفضل سبباً، فذكرهم في الآخرة ما عملوه في الدنيا، فقال :﴿وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ﴾ ليكون ترتيب العقاب على تكذيب الكتاب فظهر العدل، وغير ذلك ظاهر.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٤١
٤٤٣
وفيه مسألتان :
المسألة الأولى :﴿هَاذَا﴾ إشارة إلى ماذا ؟
نقول : فيه وجوه أحدها : القرآن ثانيها : ما ذكره في السورة ثالثها : جزاء الأزواج الثلاثة.
المسألة الثانية : كيف أضاف الحق إلى اليقين مع أنهما بمعنى واحد ؟
نقول : فيه وجوه / أحدها : هذه الإضافة، كما أضاف الجانب إلى الغربي في قوله :﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ﴾ (القصص : ٤٤) وأضاف الدار إلى الآخرة في قوله :﴿وَلَدَارُ الاخِرَةِ﴾ (الأنعام : ٣٢) غير أن المقدر هنا غير ظاهر، فإن شرط ذلك أن يكون بحيث يوصف باليقين، ويضاف إليه الحق، وما يوصف باليقين بعد إضافة الحق إليه وثانيها : أنه من الإضافة التي بمعنى من، كما يقال : باب من ساج، وباب ساج، وخاتم من فضة، وخاتم فضة، فكأنه قال : لهو الحق من اليقين ثالثها : وهو أقرب منها ما ذكره ابن عطية أن ذلك نوع تأكيد يقال : هذا من حق الحق، وصواب الصواب، أي غايته ونهايته التي لا وصول فوقه، والذي وقع في تقرير هذا أن الإنسان أظهر ما عنده الأنوار المدركة بالحس، وتلك الأنوار أكثرها مشوبة بغيرها، فإذا وصل الطالب إلى أوله يقول : وجدت أمر كذا، ثم إنه مع صحة إطلاق اللفظ عليه لا يتميز عن غيره، فيتوسط الطالب ويأخذ مطلوبه من وسطه، مثاله من يطلب الماء، ثم يصل إلى بركة عظيمة، فإذا أخذ من طرفه شيئاً يقول : هو ماء، وربما يقول قائل آخر : هذا ليس بماء، وإنما هو طين، وأما الماء ما أخذته من وسط البركة، فالذي في طرف البركة ماء بالنسبة إلى أجسام أخرى، ثم إذا نسب إلى الماء الصافي ربما يقال له شيء آخر، فإذا قال : هذا هو الماء حقاً قد أكد، وله أن يقول : حق الماء، أي الماء حقاً هذا بحيث لا يقول أحد فيه شيء، فكذلك ههنا كأنه قال : هذا هو اليقين حقاً لا اليقين الذي يقول بعض إنه ليس بيقين، ويحتمل وجهاً آخر، وهو أن يقال : الإضافة على حقيقتها، ومعناه أن هذا القول لك يا محمد وللمؤمنين، وحق اليقين أن تقول كذا، ويقرب من هذا ما يقال : حق الكمال أن يصلي المؤمن، وهذا كما قيل في قوله صلى الله عليه وسلّم :"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" أن الضمير راجع إلى الكلمة أي إلا بحق الكلمة، ومن حق الكلمة أداء الزكاة والصلاة، فكذلك حق اليقين أن يعرف ما قاله الله تعالى في الواقعة في حق الأزواج الثلاثة، وعلى هذا معناه : أن اليقين لا يحق ولا يكون إلا إذا صدق فيما قاله بحق، فالتصديق حق اليقين الذي يستحقه، وأما قوله :﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ فقد تقدم تفسيره، وقلنا إنه تعالى لما بين الحق وامتنع الكفار، قال لنبيه صلى الله عليه وسلّم هذا هو حق، فإن امتنعوا فلا تتركهم ولا تعرض عنهم وسبح ربك في نفسك، وما عليك من قومك سواء صدقوك أو كذبوك، ويحتمل أن يكون المراد فسبح واذكر ربك باسمه الأعظم، وهذا متصل بما بعده لأنه قال في السورة التي تلي هذه :﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ﴾ (الحديد : ١) فكأنه قال : سبح الله ما في السموات، فعليك أن توافقهم ولا تلتفت إلى الشرذمة القليلة الضالة، فإن كل شيء معك يسبح الله عز وجل.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٤٣
٤٤٤