المسبوقية بالغير، فالجمع بينهما محال، فثبت أن تقدم الصانع على كل ما عداه ليس بالزمان ألبتة، فإذن الذي عند العقل أنه متقدم على كل ما عداه، أنه ليس ذلك التقدم على أحد هذه الوجوه / الخمسة، فبقي أنه نوع آخر من التقدم يغاير هذه الأقسام الخمسة، فأما كيفية ذلك التقدم فليس عند العقل منها خبر، لأن كل ما يخطر ببال العقل فإنه لا بد وأن يقترن به حال من الزمان، وقد دل الدليل على أن كل ذلك محال، فإذن كونه تعالى أولاً معلوم على سبيل الإجمال، فأما على سبيل التفصيل والإحاطة بحقيقة تلك الأولية، فليس عند عقول الخلق منه أثر.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٤٩
النوع الثاني : من هذا غوامض الموضع، وهو أن الأزل متقدم على اللا يزال، وليس الأزل شيئاً سوى الحق، فتقدم الأزل على اللا يزال، يتسدعي الامتياز بين الأزل وبين اللا يزال، فهذا يقتضي أن يكون اللا يزال له مبدأ وطرف، حتى يحصل هذا الامتياز، لكن فرض هذا الطرف محال، لأن كل مبدأ فرضته، فإن اللايزال، كان حاصلاً قبله، لأن المبدأ الذي يفرض قبل ذلك الطرف المفروض بزيادة مائة سنة، يكون من جملة اللايزال، لا من جملة الأزل، فقد كان معنى اللايزال موجوداً قبل أن كان موجوداً وذلك محال.
النوع الثالث : من غوامض هذا الموضوع، أن امتياز الأزل عن اللا يزال، يستدعي انقضاء حقيقة الأزل، وانقضاء حقيقة الأزل محال، لأن مالا أول له يمتنع انقضاؤه، وإذا امتنع انقضاؤه امتنع أن يحصل عقيبه ماهية اللا يزال، فإذن يمتنع امتياز الأزل عن اللا يزال، وامتياز اللا يزال عن الأزال، وإذا امتنع حصول هذا الإمتياز امتنع حصول التقدم والتأخر، فهذه أبحاث غامضة في حقيقة التقدم والأولية والأزلية، وما هي إلا بسبب حيرة العقول البشرية في نور جلال ماهية الأزلية والأولية، فإن العقل إنما يعرف الشيء إذا أحاط به، وكل ما استحضره العقل، ووقف عليه فذاك يصير محاطاً به، والمحاط يكون متناهياً، والأزلية تكون خارجة عنه، فهو سبحانه ظاهر باطن في كونه أولاً، لأن العقول شاهدة بإسناد المحدثات إلى موجد متقدم عليها فكونه تعالى أولاً أظهر من كل ظاهر من هذه الجهة، ثم إذا أردت أن تعرف حقيقة تلك الأولية عجزت لأن كل ما أحاط به عقلك وعلمك فهو محدود عقلك ومحاط علمك فيكون متناهياً/ فتكون الأولية خارجة عنا، فكونه تعالى أولاً إذا اعتبرته من هذه الجهة كان إبطن من كل باطن، فهذا هو البحث عن كونه تعالى أولاً.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٤٩


الصفحة التالية
Icon