المسألة الثانية : قال المتكلمون : هذه المعية إما بالعلم وإما بالحفظ والحراسة، وعلى التقديرين فقد انعقد الإجماع على أنه سبحانه ليس معنا بالمكان والجهة والحيز، فإذن قوله :﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ لا بد فيه من التأويل وإذا جوزنا التأويل في موضع وجب تجويزه في سائر المواضع.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٤٩
المسألة الثالثة : اعلم أن في هذه الآيات ترتيباً عجيباً، وذلك لأنه بين قوله :﴿هُوَ الاوَّلُ وَالاخِرُ وَالظَّـاهِرُ وَالْبَاطِنُ ﴾ كونه إلهاً لجميع الممكنات والكائنات، ثم بين كونه إلهاً للعرش والسموات والأرضين. ثم بين بقوله :﴿فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ﴾ معينه لنا بسبب القدرة والإيجاد والتكوين وبسبب العلم وهو كونه عالماً بظواهرنا وبواطننا، فتأمل في كيفية هذا الترتيب، ثم تأمل في ألفاظ هذه الآيات فإن فيها أسراراً عجيبة وتنبيهات على أمور عالية.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٤٩
٤٥٠
أي إلى حيث لا مالك سواه، ودل بهذا القول على إثبات المعاد.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٥٠
٤٥١
وهذه الآيات قد تقدم تفسيرها في سائر السور، وهي جامعة بين الدلالة على قدرته، وبين إظهار نعمه، والمقصود من إعادتها البعث على النظر والتأمل، ثم الاشتغال بالشكر.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٥١
٤٥٢
قوله تعالى :﴿بِاللَّهِ وَرَسُولِه ثُمَّ﴾ اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواعاً من الدلائل على التوحيد والعلم والقدرة، أتبعها بالتكاليف، وبدأ بالأمر بالإيمان ورسوله، فإن قيل قوله :﴿ءَامَنُوا ﴾ خطاب مع من عرف الله، أو مع من لم يعرف الله، فإن كان الأول كان ذلك أمراً بأن يعرفه من عرف، فيكون ذلك أمراً بتحصيل الحاصل وهو محال، وإن كان الثاني، كان الخطاب متوجهاً على من لم يكن عارفاً به، ومن لم يكن عارفاً به استحال أن يكون عارفاً بأمره، فيكون الأمر متوجهاً على من يستحيل أن يعرف كونه مأموراً بذلك الأمر، وهذا تكليف مالا يطاق والجواب : من الناس من قال : معرفة وجود الصانع حاصلة للكل، وإنما المقصود من هذا الأمر معرفة الصفات.
ثم قال تعالى :﴿ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيه فَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا ﴾ في هذه الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه أمر الناس أولاً بأن يشتغلوا بطاعة الله، ثم أمرهم ثانياً بترك الدنيا والإعراض عنها وإنفاقها في سبيل الله، كما قال :﴿قُلِ اللَّه ثُمَّ ذَرْهُمْ﴾ (الأنعام : ٩١)، فقوله :﴿قُلِ اللَّهُ﴾ هو المراد ههنا من قوله :﴿بِاللَّهِ وَرَسُولِه ثُمَّ﴾ وقوله :﴿ثُمَّ ذَرْهُمْ﴾ هو المراد ههنا من قوله :﴿وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيه ﴾.
المسألة الثانية : في الآية وجهان الأول : أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها، ثم إنه تعالى جعلها تحت يد المكلف، وتحت تصرفه لينتفع بها على وفق إذن الشرع، فالمكلف في تصرفه في هذه الأموال بمنزلة الوكيل والنائب والخليفة، فوجب أن يسهل عليكم الإنفاق من تلك الأموال، كما يسهل على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه الثاني : أنه جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم، لأجل أنه نقل أموالهم إليكم على سبيل الإرث، فاعتبروا بحالهم، فإنها كما انتقلت منهم إليكم فستنقل منكم إلى غيركم فلا تبخلوا بها.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٥٢
المسألة الثالثة : اختلفوا في هذا الإنفاق، فقال بعضهم : هو الزكاة الواجبة، وقال آخرون : بل يدخل فيه التطوع، ولا يمتنع أن يكون عاماً في جميع وجوه البر، ثم إنه تعالى ضمن لمن فعل ذلك أجراً كبيراً فقال :﴿فَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ قال القاضي : هذه الآية تدل على أن هذا الأجر لا يحصل بالإيمان المنفرد حتى ينضاف هذا الإنفاق إليه، فمن هذا الوجه يدل على أن من أخل بالواجب من زكاة وغيرها فلا أجر له.
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف، وذلك لأن الآية تدل على أن من أخل بالزكاة الواجبة لم يحصل له ذلك الأجر الكبير، فلم قلتم : إنها تدل على أنه لا أجر له أصلاً.
[بم وقوله تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٥٢
٤٥٤
وفيه مسائل :


الصفحة التالية
Icon