المسألة الثالثة : يحتمل أن يكون المراد من الحق هو القرآن لأنه جامع للوصفين الذكر والموعظة وإنه حق نازل من السماء، ويحتمل أن يكون المراد من الذكر هو ذكر الله مطلقاً، والمراد بما نزل من الحق هو القرآن/ وإنما قدم الخشوع بالذكر على الخشوع بما نزل من القرآن، لأن الخشوع والخوف والخشية لا تحصل إلا عند ذكر الله، فأما حصولها عند سماع القرآن فذاك لأجل اشتمال القرآن على ذكر الله، ثم قال تعالى :﴿وَلا يَكُونُوا ﴾ قال الفراء : هو في موضع نصب معناه : ألم يأن أن تخشع قلوبهم، وأن لا يكونوا، قال : ولو كان جزماً على النهي كان صواباً، ويدل على هذا الوجه قراءة من قرأ بالتاء على سبيل الالتفات، ثم قال :﴿كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـابَ مِن قَبْلُ﴾ يريد اليهود والنصارى :﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الامَدُ﴾ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : ذكروا في تفسير طول الأمد وجوهاً أحدها : طالت المدة بينهم وبين أنبيائهم فقست قلوبهم وثانيها : قال ابن عباس : مالوا إلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ الله وثالثها : طالت أعمارهم في الغفلة فحصلت القسوة في قلوبهم بذلك السبب ورابعها : قال :/ ابن جبان : الأمد ههنا الأمل البعيد، والمعنى على هذا طال عليهم الأمد بطول الأمل، أي لما طالت آمالهم لا جرم قست قلوبهم وخامسها : قال مقاتل بن سليمان : طال عليهم أمد خروج النبي عليه السلام وسادسها : طال عهدهم بسماع التوراة والإنجيل فزال وقعهما عن قلوبهم فلا جرم قست قلوبهم، فكأنه تعالى نهى المؤمنين عن أن يكونوا كذلك، قاله القرظي.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٦٢
المسألة الثانية : قرىء (الأمد) بالتشديد، أي الوقت الأطول، ثم قال :﴿وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـاسِقُونَ﴾ أي خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين، وكأنه إشارة إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفسق في آخر الأمر.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٦٢
٤٦٣
وفيه وجهان الأول : أنه تمثيل والمعنى أن القلوب التي ماتت بسبب القساوة، فالمواظبة على الذكر سبب لعود حياة الخشوع إليها كما يحيي الله الأرض بالغيث والثاني : أن المراد من قوله :﴿فَانظُرْ إِلَى ا ءَاثَـارِ رَحْمَتِ﴾ بعث الأموات فذكر ذلك ترغيباً في الخشوع والخضوع وزجراً عن القساوة.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٦٣
٤٦٤
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال أبو علي الفارسي : قرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر :﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَـاتِ﴾ بالتخفيف، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم :﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَـاتِ﴾ بتشديد الصاد فيهما، فعلى القراءة الأولى يكون معنى المصدق المؤمن، فيكون المعنى :﴿إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـالِحَـاتِ﴾ لأن إقراض الله من الأعمال الصالحة، ثم قالوا : وهذه القراءة أولى لوجهين الأول : أن من تصدق لله وأقرض إذا لم يكن مؤمناً لم يدخل تحت الوعد، فيصير ظاهر الآية متروكاً على قراءة التشديد، ولا يصير متروكاً على قراءة التخفيف والثاني : أن المتصدق هو الذي يقرض الله، فيصير قوله :﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَـاتِ﴾ وقوله :﴿وَأَقْرَضُوا اللَّهَ﴾ شيئاً واحداً وهو تكرار، أما على قراءة التخفيف فإنه لا يلزم التكرار، وحجة من نقل وجهان أحدهما : أن في قراءة أبي :﴿وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَـاتِ﴾ بالتاء والثاني : أن قوله :﴿وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ اعتراض بين الخبر والمخبر عنه، والاعتراض بمنزلة الصفة، فهو للصدقة أشد ملازمة / منه للتصديق، وأجاب الأولون : بأنا لا نحمل قوله :﴿وَأَقْرَضُوا ﴾ على الاعتراض، ولكنا نعطفه على المعنى، ألا ترى أن المصدقين والمصدقات معناه : إن الذين صدقوا، فصار تقدير الآية : إن الذين صدقوا وأقرضوا الله.
المسألة الثانية : في الآية إشكال وهو أن عطف الفعل على الاسم قبيح فما الفائدة في التزامه ههنا ؟
قال صاحب الكشاف قوله :﴿وَأَقْرَضُوا ﴾ معطوف على معنى الفعل في المصدقين، لأن اللام بمعنى الذين، واسم الفاعل بمعنى صدقوا، كأنه قيل : إن الذين صدقوا وأقرضوا، واعلم أن هذا لا يزيل الإشكال فإنه ليس فيه بيان أنه لم عدل عن ذلك اللفظ إلى هذا اللفظ، والذي عندي فيه أن الألف واللام في المصدقين والمصدقات للمعهود، فكأنه ذكر جماعة معينين بهذا الوصف ثم قبل ذكر الخبر أخبر عنهم بأنهم أتوا بأحسن أنواع الصدقة وهو الإتيان بالقرض الحسن، ثم ذكر الخبر بعد ذلك وهو قوله :﴿يُضَـاعَفُ لَهُمْ﴾ فقوله :﴿وَأَقْرَضُوا اللَّهَ﴾ هو المسمى بحشو اللوزنج كما في قوله :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٦٤
إن الثمانين وبلغتها
(قد أحوجت سمعي إلى ترجمان)


الصفحة التالية
Icon