المسألة الثانية : قال أبو علي الفارسي قرأ أبو عمرو وحده :﴿بِمَآ ءَاتَـاـاكُمْ ﴾ قصراً، وقرأ الباقون :﴿ءَاتَـاـاكُمْ ﴾ ممدوداً، حجة أبي عمرو أن :﴿ءَاتَـاـاكُمْ ﴾ معادل لقوله :﴿فَاتَكُمْ﴾ فكما أن الفعل للغائب في قوله :﴿فَاتَكُمْ﴾ كذلك يكون الفعل للآني في قوله :﴿بِمَآ ءَاتَـاـاكُمْ ﴾ والعائد إلى الموصول في الكلمتين الذكر المرفوع بأنه فاعل، وحجة الباقين أنه إذا مد كان ذلك منسوباً إلى الله تعالى وهو المعطي لذلك، ويكون فاعل الفعل في :﴿ءَاتَـاـاكُمْ ﴾ ضميراً عائداً إلى اسم الله سبحانه وتعالى والهاء محذوفة من الصلة تقديره بما آتاكموه.
المسألة الثالثة : قال المبرد : ليس المراد من قوله :﴿يَسِيرٌ * لِّكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَآ﴾ نفي الأسى والفرح على الإطلاق بل معناه لا تحزنوا حزناً يخرجكم إلى أن تهلكوا أنفسكم ولا تعتدوا بثواب على فوات ما سلب منكم، ولا تفرحوا فرحاً شديد يطغيكم حتى تأشروا فيه وتبطروا، ودليل ذلك قوله تعالى :﴿وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ﴾ فدل بهذا على أنه ذم الفرح الذي يختال فيه صاحبه ويبطر، وأما الفرح بنعمة الله والشكر عليها فغير مذموم، وهذا كله معنى ما روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا للمصيبة صبراً وللخير شكراً. واحتج القاضي بهذه الآية على أنه تعالى لا يريد أفعال العباد والجواب عنه أن كثيراً من أصحابنا من فرق بين المحبة والإرادة فقال : المحبة إرادة مخصوصة، وهي إرادة الثواب فلا يلزم من نفي هذه الإرادة نفي مطلق الإرادة.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٧٢
٤٧٣
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في الآية قولان : الأول : أن هذا بدل من قوله :﴿كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ كأنه قال : لا يحب المختال ولا يحب الذين يبخلون يريد الذين يفرحون الفرح المطغى فإذا رزقوا مالاً وحظاً من الدنيا فلحبهم له وعزته عندهم يبخلون به ولا يكفيهم أنهم بخلوا به بل يأمرون الناس بالبخل به، وكل ذلك نتيجة فرحهم عند إصابته، ثم قال بعد ذلك :﴿وَمَن يَتَوَلَّ﴾ عن أوامر الله ونواهيه ولم ينته عما نهى عنه من الأسى على الفائت والفرح بالآتي فإن الله غني عنه القول الثاني : أن قوله :/ ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله، وهو في صفة اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلّم ويخلوا ببيان نعته، وهو مبتدأ وخبره محذوف دل عليه قوله :﴿وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ﴾ وحذف الخبر كثير في القرآن كقوله :﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ﴾.
المسألة الثانية : قال أبو علي الفارسي : قرأ نافع وابن عامر ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ﴾، وحذفوا لفظ ﴿هُوَ﴾ وكذلك ﴿هُوَ﴾ في مصاحف أهل المدينة والشأم، وقرأ الباقون ﴿هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ﴾ قال أبو علي : ينبغي أن هو في هذه الآية فصلاً لا مبتدأ، لأن الفصل حذفه أسهل، ألا ترى أنه لا موضع للفصل من الإعراب، وقد يحذف فلا يخل بالمعنى كقوله :﴿إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالا وَوَلَدًا﴾ (الكهف : ٣٩).
المسألة الثالثة : قوله :﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ﴾ معناه أن الله غني فلا يعود ضرر عليه ببخل ذلك البخيل، وقوله :﴿الْحَمِيدُ﴾ كأنه جواب عن السؤال يذكر ههنا، فإنه يقال : لما كان تعالى عالماً بأنه يبخل بذلك المال ولا يصرفه إلى وجوه الطاعات، فلم أعطاه ذلك المال ؟
فأجاب بأنه تعالى حميد في ذلك الإعطاء، ومستحق حيث فتح عليه أبواب رحمته ونعمته، فإن قصر العبد في الطاعة فإن وباله عائد إليه.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٧٣
٤٧٥
ثم قال تعالى :﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَـاتِ﴾ وفي تفسير البينات قولان : الأول : وهو قول مقاتل بن سليمان إنها هي المعجزات الظاهرة والدلائل القاهرة والثاني : وهو قول مقاتل بن حيان : أي أرسلناهم بالأعمال التي تدعوهم إلى طاعة الله وإلى الإعراض عن غير الله، والأول هو الوجه الصحيح لأن نبوتهم إنما ثبتت بتلك المعجزات.
ثم قال تعالى :﴿وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَـابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِا وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَـافِعُ لِلنَّاسِ﴾.
واعلم أن نظير هذه الآية قوله :﴿اللَّهُ الَّذِى أَنزَلَ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ﴾ (الشورى : ١٧) وقال :﴿وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ (الرحمن : ٧) وههنا مسائل :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٧٥


الصفحة التالية
Icon