المسألة الرابعة : الرهبانية معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف فعلان من رهب، كخشيان من خشي، وقرىء :(ورهبانية) بالضم كأنها نسبة إلى الرهبان، وهو جمع راهب كراكب وركبان، والمراد من الرهبانية ترهبهم في الجبال فارين من الفتنة في الدين، مخلصين أنفسهم للعبادة ومتحملين كلفاً زائدة على العبادات التي كانت واجبة عليهم من الخلوة واللباس الخشن، والاعتزال عن النساء والتعبد في الغيران والكهوف، عن ابن عباس أن في أيام الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام غير الملوك التوراة والإنجيل، فساح قوم في الأرض ولبسوا الصوف، وروى ابن مسعود أنه عليه السلام، قال :"يا ابن مسعود : أما علمت أن بني إسرائيل تفرقوا سبعين فرقة، كلها في النار إلا ثلاث فرق، فرقة آمنت بعيسى عليه السلام/ وقاتلوا أعداء الله في نصرته حتى قتلوا، وفرقة لم يكن لها طاقة بالقتال، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وفرقة لم يكن لها طاقة بالأمرين، فلبس العباء، وخرجوا إلى القفار والفيافي وهو قوله :﴿وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً﴾ إلى آخر الآية".
المسألة الخامسة : لم يعن الله تعالى بابتدعوها طريقة الذم، بل المراد أنهم أحدثوها من عند أنفسهم ونذروها، ولذلك قال تعالى بعده :﴿مَا كَتَبْنَـاهَا عَلَيْهِمْ﴾.
المسألة السادسة : منصوبة بفعل مضمر، يفسره الظاهر، تقديره : ابتدعوا رهبانية ابتدعوها، وقال أبو علي الفارسي : الرهبانية لا يستقيم حملها على ﴿وَمَا جَعَلْنَآ﴾، لأن ما يبتدعونه هم لا يجوز أن يكون مجعولاً لله تعالى، وأقول : هذا الكلام إنما يتم لو ثبت امتناع مقدور بين قادرين، ومن أين يليق بأبي على أن يخوض في أمثال هذه الأشياء.
ثم قال تعالى :﴿مَا كَتَبْنَـاهَا عَلَيْهِمْ﴾ أي لم نفرضها نحن عليهم.
أما قوله :﴿إِلا ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ ففيه قولان : أحدهما : أنه استثناء منقطع. أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله الثاني : أنه استثناء متصل، والمعنى أنا ما تعبدناهم بها إلا على وجه ابتغاء مرضاة الله تعالى، والمراد أنها ليست واجبة، فإن المقصود من فعل الواجب، دفع العقاب وتحصيل رضا الله، أما المندوب فليس المقصود من فعله دفع العقاب، بل المقصود منه ليس إلا تحصيل مرضاة الله تعالى.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٧٧
أما قوله تعالى :﴿فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَـاَاتَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُم وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـاسِقُونَ﴾ ففيه أقوال : أحدها : أن هؤلاء الذين ابتدعوا هذه الرهبانية ما رعوها حق رعايتها، بل ضموا إليها التثليث والاتحاد، وأقام أناس منهم على دين عيسى حتى أدركوا محمداً عليه الصلاة والسلام فآمنوا به فهو قوله :﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ا ءَاثَـارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ﴾، وثانيها : أنا ما كتبنا عليهم تلك الرهبانية إلا ليتوسلوا بها إلى مرضاة الله تعالى، ثم إنهم أتوا بتلك الأفعال، لكن لا لهذا الوجه، بل لوجه آخر، وهو طلب الدنيا والرياء والسمعة وثالثها : أنا لما كتباها عليهم تركوها، فيكون ذلك ذماً لهم من حيث إنهم تركوا الواجب ورابعها : أن الذين لم يرعوها حق رعايتها هم الذين أدركوا محمداً عليه الصلاة والسلام، ولم يؤمنوا به، وقوله :﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ا ءَاثَـارِهِم بِرُسُلِنَا﴾ أي الذين آمنوا بمحمد وكثير منهم فاسقون يعني الذين لم يؤمنوا به، ويدل على هذا ما روي أنه عليه السلام قال :"من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون" وخامسها : أن الصالحين من قوم عيسى عليه السلام ابتدعوا الرهبانية وانقرضوا عليها، ثم جاء بعدهم قوم اقتدوا بهم في اللسان، وما كانوا مقتدين بهم في العمل، فهم الذين ما رعوها حق رعايتها، قال عطاء : لم يرعوها كما رعاها الحواريون، ثم قال :﴿وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـاسِقُونَ﴾ والمعنى أن بعضهم قام برعايتها وكثير منهم أظهر الفسق وترك تلك الطريقة ظاهراً وباطناً.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٧٧
٤٧٧
اعلم أنه لما قال في الآية الأولى :﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ا ءَاثَـارِهِم﴾ أي من قوم عيسى :﴿أَجْرَهُمْ ﴾ (الحديد : ٢٧) قال في هذه الآية :﴿ذَالِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ والمراد به أولئك فأمرهم أن يتقوا الله ويؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام ثم قال :﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ﴾ أي نصيبين من رحمته لإيمانكم أولاً بعيسى، وثانياً بمحمد عليه الصلاة والسلام، ونظيره قوله تعالى :﴿ أولئك يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ﴾ (القصص : ٥٤) عن ابن عباس أنه نزل في قوم جاءوا من اليمن من أهل الكتاب إلى الرسول وأسلموا فجعل الله لهم أجرين، وههنا سؤالان :


الصفحة التالية
Icon