والثاني : وهو صاحب النظم، أنه ليس مأخوذاً من الظهر الذي هو عضو من الجسد، لأنه ليس الظهر أولى بالذكر في هذا الموضع من سائر الأعضاء التي هي مواضع المباضعة والتلذذ، بل الظهر ههنا مأخوذ من العلو، ومنه قوله تعالى :﴿فَمَا اسْطَـاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ﴾ (الكهف : ٩٧) أي يعلوه، وكل من علا شيئاً فقد ظهره، ومنه سمي المركوب ظهراً، لأن راكبه يعلوه، وكذلك امرأة الرجل ظهره، لأنه يعلوها بملك البضع، وإن لم يكن من ناحية الظهر، فكأن امرأة الرجل مركب للرجل وظهر له، ويدل على صحة هذا المعنى أن العرب تقول في الطلاق : نزلت عن امرأتي أي طلقتها، وفي قولهم : أنت عليَّ كظهر أمي، حذف وإضمار، لأن تأويله : ظهرك علي، أي ملكي إياك، وعلوي عليك حرام، كما أن علوي على أمي وملكها حرام علي.
المقام الثاني : في الألفاظ المستعملة بهذا المعنى في عرف الشريعة. الأصل في هذا الباب أن يقال : أنت علي كظهر أمي، فإما أن يكون لفظ الظهر، ولفظ الأم مذكورين وإما أن يكون لفظ الأم مذكوراً دون لفظ الظهر، وإما أن يكون لفظ الظهر مذكوراً دون لفظ الأم، وإما أن لا يكون واحد منهما مذكوراً، فهذه أقسام أربعة.
القسم الأول : إذا كانا مذكورين وهو معتبر بالاتفاق، ثم لا مناقشة في الصلات إذا انتظم الكلام، فلو قال : أنت علي كظهر أمي، أو أنت مني كظهر أمي، فهذه الصلات كلها جائزة ولو لم يستعمل صلة، وقال : أنت كظهر أمي، فقيل : إنه صريح، وقيل : يحتمل أن يريد إنها كظهر أمه في حق غيره، ولكن هذا الاحتمال كما لو قال لامرأته : أنت طالق، ثم قال : أردت بذلك الإخبار عن كونها طالقاً من جهة فلان.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٨٨
القسم الثاني : أن تكون الأم مذكورة، ولا يكون الظهر مذكوراً، وتفصيل مذهب الشافعي فيه أن الأعضاء قسمان، منها ما يكون التشبيه بها غير مشعر بالإكرام، ومنها ما يكون التشبيه بها مشعر بالإكرام، أما الأول : فهو كقوله : أنت علي كرجل أمي، أو كيد أمي، أو كبطن أمي، وللشافعي فيه قولان : الجديد أن الظهار يثبت، والقديم أنه لا يثبت، أما الأعضاء التي يكون التشبيه بها سبباً للإكرام، فهو كقوله : أنت علي كعين أمي، أو روح أمي، فإن أراد الظهار كان ظهاراً، وإن أراد الكرامة فليس بظهار، فإن لفظه محتمل لذلك، وإن أطلق ففيه تردد، هذا تفصيل مذهب الشافعي، وأما مذهب أبي حنيفة، فقال أبو بكر الرازي في "أحكام القرآن" : إذا شبه زوجته بعضو من الأم يحل له النظر إليه لم يكن ظهاراً، وهو قوله : أنت علي كيد أمي أو كرأسها، أما إذا شبهها بعضو من الأم يحرم عليه النظر إليه كان ظهاراً/ كما إذا قال : أنت علي كبطن أمي أو فخذها، والأقرب عندي هو القول القديم للشافعي، وهو أنه لا يصح الظهار بشيء من هذه الألفاظ، والدليل عليه أن حل الزوجة كان ثابتاً، وبراءة الذمة عن وجوب الكفارة كانت ثابتة، والأصل في الثابت البقاء على ما كان ترك العمل به فيما إذا قال : أنت علي / كظهر أمي لمعنى مفقود في سائر الصور، وذلك لأن اللفظ المعهود في الجاهلية هو قوله : أنت علي كظهر أمي، ولذلك سمي ظهاراً، فكان هذا اللفظ بسبب العرف مشعراً بالتحريم، ولم يوجد هذا المعنى في سائر الألفاظ، فوجب البقاء على حكم الأصل.
القسم الثالث : ما إذا كان الظهر مذكوراً ولم تكن الأم مذكورة، فهذا يدل على ثلاثة مراتب : المرتبة الأولى : أن يجري التشبيه بالمحرمات من النسب والرضاع، وفيه قولان : القديم أنه لا يكون ظهاراً، والقول الجديد أنه يكون ظهاراً، وهو قول أبي حنيفة. المرتبة الثانية : تشبيهها بالمرأة المحرمة تحريماً مؤقتاً مثل أن يقول لامرأته : أنت علي كظهر فلانة، وكان طلقها والمختار عندي أن شيئاً من هذا لا يكون ظهاراً، ودليله ما ذكرناه في المسألة السالفة، وحجة أبي حنيفة أنه تعالى قال :﴿وَالَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ﴾ وظاهر هذه الآية يقتضي حصول الظهار بكل محرم فمن قصره على الأم فقد خص والجواب : أنه تعالى لما قال بعده :﴿مَّا هُنَّ أُمَّهَـاتِهِم إِنْ أُمَّهَـاتُهُمْ إِلا الَّـا ئِى وَلَدْنَهُمْ ﴾ دل على أن المراد هو الظهار بذكر الأم، ولأن حرمة الأم أشد من حرمة سائر المحارم، فنقول : المقتضي لبقاء الحل قائم على ما بيناه، وهذا الفارق موجود، فوجب أن لا يجوز القياس.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٤٨٨
القسم الرابع : ما إذا لم يذكر لا الظهر ولا الأم، كما لو قال : أنت علي كبطن أختي، وعلى قياس ما تقدم يجب أن لا يكون ذلك ظهاراً.
البحث الثاني : في المظاهر، وفيه مسألتان :