ثم ههنا سؤال : وهو أن أموال بني النضير أخذت بعد القتال لأنهم حوصروا أياماً، وقاتلوا وقتلوا ثم صالحوا على الجلاء فوجب أن تكون تلك الأموال من جملة الغنيمة لا من جملة الفيء، ولأجل هذا السؤال ذكر المفسرون ههنا وجهين الأول : أن هذه الآية ما نزلت في قرى بني النضير لأنهم أوجفوا عليهم بالخيل والركاب وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمسلمون بل هو في فدك، وذلك لأن أهل فدك انجلوا عنه فصارت تلك القرى والأموال في يد الرسول عليه السلام من غير حرب فكان عليه الصلاة والسلام يأخذ من غلة فدك نفقته ونفقة من يعوله، ويجعل الباقي في السلاح والكراع، فلما مات ادعت فاطمة عليها السلام أنه كان ينحلها فدكا، فقال أبو بكر : أنت أعز الناس علي فقراً، وأحبهم إلي غنى، لكني لا أعرف صحة قولك، ولا يجوز أن أحكم بذلك، فشهد لها أم أيمن ومولى للرسول عليه السلام، فطلب منها أبو بكر الشاهد الذي يجوز قبول شهادته في الشرع فلم يكن، فأجرى أبو بكر ذلك على ما كان يجريه الرسول صلى الله عليه وسلّم ينفق منه على من كان ينفق عليه الرسول، ويجعل ما يبقى في السلاح والكراع، وكذلك عمر جعله في يد علي ليجريه على هذا المجرى، ورد ذلك في آخر عهد عمر إلى عمر، وقال : إن بنا غنى وبالمسلمين حاجة إليه، وكان عثمان رضي الله عنه يجريه كذلك، ثم صار إلى علي فكان يجريه هذا المجرى / فالأئمة الأربعة اتفقوا على ذلك والقول الثاني : أن هذه الآية نزلت في بني النضير وقراهم، وليس للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب، ولم يقطعوا إليها مسافة كثيرة، وإنما كانوا على ميلين من المدينة فمشوا إليها مشياً، ولم يركب إلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكان راكب جمل، فلما كانت المقاتلة قليلة والخيل والركب غير حاصل، أجراه الله تعالى مجرى مالم يحصل فيه المقاتلة أصلاً فخص رسول الله صلى الله عليه وسلّم بتلك الأموال/ ثم روى أنه قسمها بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهم أبو دجانة وسهل بن حنيف والحرث بن الصمة. ثم إنه تعالى ذكر حكم الفيء فقال :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥٠٨
٥٠٩
قال صاحب الكشاف : لم يدخل العاطف على هذه الجملة لأنها بيان للأولى فهي منها وغير أجنبية عنها، واعلم أنهم أجمعوا على أن المراد من قوله :﴿وَلِذِى الْقُرْبَى ﴾ بنو هاشم وبنو المطلب. قال الواحدي : كان الفيء في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلّم مقسوماً على خمسة أسهم أربعة منها لرسول الله صلى الله عليه وسلّم خاصة وكان الخمس الباقي يقسم على خمسة أسهم، سهم منها لرسول الله أيضاً، والأسهم الأربعة لذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وأما بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام فللشافعي فيما كان من الفيء لرسول الله قولان أحدهما : أنه للمجاهدين المرصدين للقتال في الثغور لأنهم قاموا مقام رسول الله في رباط الثغور والقول الثاني : أنه يصرف إلى مصالح المسلمين من سد الثغور وحفر الأنهار وبناء القناطر، يبدأ بالأهم فالأهم، هذا في الأربعة أخماس التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأما السهم الذي كان له من خمس الفيء فإنه لمصالح المسلمين بلا خلاف، وقوله تعالى :﴿كَىْ لا يَكُونَ دُولَةَا بَيْنَ الاغْنِيَآءِ مِنكُمْ ﴾ فيه مسائل :
المسألة الأولى : قال المبرد : الدولة اسم للشيء الذي يتداوله القوم بينهم يكون كذا مرة وكذا مرة، والدولة بالفتح انتقال حال سارة إلى قوم عن قوم، فالدولة بالضم اسم ما يتداول، وبالفتح مصدر من هذا، ويستعمل في الحالة السارة التي تحدث للإنسان، فيقال : هذه دولة فلان / أي تداوله، فالدولة اسم لما يتداول من المال، والدولة اسم لما ينتقل من الحال، ومعنى الآية كي لا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى للفقراء ليكون لهم بلغة يعيشون بها واقعاً في يد الأغنياء ودولة لهم.
المسألة الثانية : قرىء :(دولة) و(دولة) بفتح الدال وضمها، وقرأ أبو جعفر :(دولة) مرفوعة الدال والهاء، قال أبو الفتح :﴿يَكُونَ﴾ ههنا هي التامة كقوله :﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ﴾ (البقرة : ٢٨٠) يعني كي لا يقع دولة جاهلية، ثم قال :﴿وَمَآ ءَاتَـاـاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـاـاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ﴾ يعني ما أعطاكم الرسول من الفيء فخذوه فهو لكم حلال وما نهاكم عن أخذه فانتهوا ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾ في أمر الفيء ﴿إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ على ما نهاكم عنه الرسول، والأجود أن تكون هذه الآية عامة في كل ما آتى رسول الله ونهى عنه وأمر الفيء داخل في عمومه.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥٠٩
٥٠٩