جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥٢٠
الثالث : قال تعالى :﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ ولم يقل : خبير، مع أنه أبلغ في العلم بالشيء، والجواب : أن الخبير أبلغ في العلم والبصير أظهر منه فيه، لما أنه يجعل عملهم كالمحسوس بحس البصر والله أعلم.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥٢٠
٥٢١
اعلم أن الأسوة ما يؤتسى به مثل القدوة لما يقتدى به، يقال : هو أسوتك، أي أنت مثله وهو مثلك، وجمع الأسوة أسى، فالأسوة اسم لكل ما يقتدى به، قال المفسرون أخبر الله تعالى أن إبراهيم وأصحابه تبرءوا من قومهم وعادوهم، وقالوا لهم :﴿إِنَّنِى بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ﴾، وأمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يأنسوا بهم وبقوله، قال الفراء : يقول أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم في التبرئة من أهله في قوله تعالى :﴿إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَا ؤُا مِنكُمْ﴾ وقوله تعالى :﴿إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لابِيهِ لاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ وهو مشرك وقال مجاهد : نهوا أن يتأسوا باستغفار إبراهيم لأبيه فيستغفرون للمشركين، وقال مجاهد وقتادة : ائتسوا بأمر إبراهيم كله إلا في استغفاره لأبيه، وقيل : تبرءوا من كفار قومكم فإن لكم أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه من المؤمنين في البراءة من قومهم، لا في الاستغفار لأبيه، وقال ابن قتيبة : يريد أن إبراهيم عاداهم وهجرهم في كل شيء إلا في قوله لأبيه :﴿لاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ وقال ابن الأنباري : ليس الأمر على ما ذكره، بل المعنى قد كانت لكم أسوة في كل شيء فعله، إلا في قوله لأبيه :﴿لاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ / وقوله تعالى :﴿وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ ﴾ هذا من قول إبراهيم لأبيه يقول له : ما أغنى عنك شيئاً، ولا أدفع عنك عذاب الله إن أشركت به، فوعده الاستغفار رجاء الإسلام، وقال ابن عباس : كان من دعاء إبراهيم وأصحابه :﴿رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا﴾ الآية، أي في جميع أمورنا ﴿وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا﴾ رجعنا بالتوبة عن المعصية إليك إذ المصير ليس إلا إلى حضرتك، وفي الآية مباحث :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥٢١
الأول : لقائل أن يقول :﴿حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَه ﴾ ما الفائدة في قوله :﴿وَحْدَه ﴾ والإيمان به وبغيره من اللوازم، كما قال تعالى :﴿كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَـا اـاِكَتِه وَكُتُبِه وَرُسُلِه ﴾ (البقرة : ٢٨٥) فنقول : الإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، من لوازم الإيمان بالله وحده، إذ المراد من قوله :﴿وَحْدَه ﴾ هو وحده في الألوهية، ولا نشك في أن الإيمان بألوهية غيره، لا يكون إيماناً بالله، إذ هو الإشراك في الحقيقة، والمشرك لا يكون مؤمناً.
الثاني : قوله تعالى :﴿إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ﴾ استثناء من أي شيء هو، نقول : من قوله :﴿أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ لما أنه أراد بالأسوة الحسنة قولهم الذي حق عليهم أن يأتسوا به، ويتخذوه سنة يستنون بها.
الثالث : إن كان قوله :﴿لاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ مستثنى من القول الذي سبق وهو :﴿أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ فما بال قوله :﴿وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ ﴾ وهو غير حقيق بالاستثناء، ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْـاًا﴾ (الفتح : ١١) نقول : أراد الله تعالى استثناء جملة قوله لأبيه، والقصد إلى موعد الاستغفار له وما بعده مبني عليه وتابع له/ كأنه قال : أنا استغفر لك، وما وسعي إلا الاستغفار.
الرابع : إذا قيل : بم اتصل قوله :﴿رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا﴾ نقول : بما قبل الاستثناء، وهو من جملة الأسوة الحسنة، ويجوز أن يكون المعنى هو الأمر بهذا القول تعليماً للمؤمنين وتتميماً لما وصاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفرة، والائتساء بإبراهيم وقومه في البراءة منهم تنبيهاً على الإنابة إلى حضرة الله تعالى، والاستعاذة به.
الخامس : إذا قيل : ما الفائدة في هذا الترتيب ؟
فنقول : فيه من الفوائد مالا يحيط به إلا هو، والظاهر من تلك الجملة أن يقال : التوكل لأجل الإفادة، وإفادة التوكل مفتقرة إلى التقوى قال تعالى :﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّه مَخْرَجًا﴾ (الطلاق : ٢) والتقوى الإنابة، إذ التقوى الاحتراز عما لا ينبغي من الأمور، والإشارة إلى أن المرجع والمصير للخلائق حضرته المقدسة ليس إلا، فكأنه ذكر الشيء، وذكر عقيبه ما يكون من اللوازم لإفادة ذلك كما ينبغي، والقراءة في ﴿بَرَآءٌ﴾ على أربعة أوجه : برآء كشركاء، وبراء كظراف، وبراء على إبدال الضم من الكسر كرخال، وبراء على الوصف بالمصدر والبراء والبراءة، مثل الطماء والطماءة.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥٢١
٥٢٣