اختلفوا في المراد من ﴿الَّذِينَ لَمْ يُقَـاتِلُوكُمْ﴾ فالأكثرون على أنهم أهل العهد الذين عاهدوا / رسول الله صلى الله عليه وسلّم على ترك القتال، والمظاهرة في العداوة، وهم خزاعة كانوا عاهدوا الرسول على أن لا يقاتلوه ولا يخرجوه، فأمر الرسول عليه السلام بالبر والوفاء إلى مدة أجلهم، وهذا قول ابن عباس والمقاتلين والكلبي، وقال مجاهد : الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا، وقيل : هم النساء والصبيان، وعن عبد الله بن الزبير : أنها نزلت في أسماء بنت أبي بكر قدمت أمها فتيلة عليها وهي مشركة بهدايا، فلم تقبلها ولم تأذن لها بالدخول، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلّم أن تدخلها وتقبل منها وتكرمها وتحسن إليها، وعن ابن عباس : أنهم قوم من بني هاشم منهم العباس أخرجوا يوم بدر كرهاً، وعن الحسن : أن المسلمين استأمروا رسول الله في أقربائهم من المشركين أن يصلوهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل الآية في المشركين، وقال قتادة نسختها آية القتال. وقوله :﴿أَن تَبَرُّوهُمْ﴾ بدل من ﴿الَّذِينَ لَمْ يُقَـاتِلُوكُمْ﴾ وكذلك ﴿أَن تَوَلَّوْهُمْ ﴾ بدل من﴿الَّذِينَ قَـاتَلُوكُمْ﴾ والمعنى : لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء، وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء، وهذا رحمة لهم لشدتهم في العداوة، وقال أهل التأويل : هذه الآية تدل على جواز البر بين المشركين والمسلمين، وإن كانت الموالاة منقطعة، وقوله تعالى :﴿وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ﴾ قال ابن عباس يريد بالصلة وغيرها ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ يريد أهل البر والتواصل، وقال مقاتل : أن توفوا لهم بعهدهم وتعدلوا، ثم ذكر من الذين ينهاهم عن صلتهم فقال :﴿إِنَّمَا يَنْهَـاـاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَـاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَـارِكُمْ وَظَـاهَرُوا عَلَى ا إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ﴾ وفيه لطيفة : وهي أنه يؤكد قوله تعالى :﴿لا يَنْهَـاـاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَـاتِلُوكُمْ﴾.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥٢٥
بم ثن قال تعالى :
في نظم هذه الآيات وجه حسن معقول، وهو أن المعاند لا يخلو من أحد أحوال ثلاثة، إما أن يستمر عناده، أو يرجى منه أن يترك العناد، أو يترك العناد ويستسلم، وقد بين الله تعالى في هذه الآيات أحوالهم، وأمر المسلمين أن يعاملوهم في كل حالة على ما يقتضيه الحال.
أما قوله تعالى :﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَه ا إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَا ؤُا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ﴾ (الممتحنة : ٤) فهو إشارة إلى الحالة الأولى، ثم قوله :﴿عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ﴾ (الممتحنة : ٧) إشارة إلى الحالة الثانية، ثم قوله :﴿ يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَـاتُ﴾ إشارة إلى الحالة الثالثة، ثم فيه لطيفة وتنبيه وحث على مكارم الأخلاق، لأنه تعالى ما أمر المؤمنين في مقابلة تلك الأحوال الثلاث بالجزاء إلا بالتي هي أحسن، وبالكلام إلا بالذي هو أليق.


الصفحة التالية
Icon