قرأ زيد بن علي :﴿يُقَـاتِلُونَ﴾ بفتح التاء، وقرىء (يقتلون) أن يصفون صفاً، والمعنى يصفون أنفسهم عند القتال كأنهم بنيان مرصوص، قال الفراء : مرصوص بالرصاص، يقال : رصصت البناء إذا / لا يمت بينه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة، وقال الليث : يقال : رصصت البناء إذا ضممته، والرص انضمام الأشياء بعضها إلى بعض، وقال ابن عباس : يوضع الحجر على الحجر ثم يرص بأحجار صغار ثم يوضع اللبن عليه فتسميه أهل مكة المرصوص، وقال أبو إسحق : أعلم الله تعالى أنه يحب من يثبت في الجهاد ويلزم مكانه كثبوت البناء المرصوص، وقال : ويجوز أن يكون على أن يستوي شأنهم في حرب عدوهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة، وموالاة بعضهم بعضاً كالبنيان المرصوص، وقيل : ضرب هذا المثل للثبات : يعني إذا اصطفوا ثبتوا كالبنيان المرصوص الثابت المستقر، وقيل : فيه دلالة على فضل القتال راجلاً، لأن العرب يصطفون على هذه الصفة، ثم المحبة في الظاهر على وجهين أحدهما : الرضا عن الخلق وثانيها : الثناء عليهم بما يفعلون، ثم ما وجه تعلق الآية بما قبلها وهو قوله تعالى :﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن﴾ نقول تلك الآية مذمة المخالفين في القتال وهم الذين وعدوا بالقتال ولم يقاتلوا، وهذه الآية محمدة الموافقين في القتال وهم الذين قاتلوا في سبيل الله وبالغوا فيه.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥٢٩
٥٣٠
معناه اذكر لقومك هذه القصة، و﴿إِذْ﴾ منصوب بإضمار اذكر أي حين قال لهم :﴿تُؤْذُونَنِى﴾ وكانوا يؤذونه بأنواع الأذى قولاً وفعلاً، فقالوا :﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ (النساء : ١٥٣)، ﴿لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ (البقرة : ٦١) وقيل : قد رموه بالأدرة، وقوله تعالى :﴿وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ﴾ في موضع الحال، أي تؤذونني عالمين علماً قطعياً أني رسول الله وقضية علمكم بذلك موجبة للتعظيم والتوقير، وقوله :﴿فَلَمَّا زَاغُوا ﴾ أي مالوا إلى غير الحق ﴿أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ أي أمالها عن الحق، وهو قول ابن عباس وقال مقاتل :﴿زَاغُوا ﴾ أي عدلوا عن الحق بأبدانهم ﴿أَزَاغَ اللَّهُ﴾ أي أمال الله قلوبهم عن الحق وأضلهم جزاء ما عملوا، ويدل عليه قوله تعالى :﴿وَاللَّهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ﴾ قال أبو إسحق معناه : والله لا يهدي من سبق في عمله أنه فاسق، وفي هذا تنبيه على عظيم إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلّم حتى إنه يؤدي إلى الكفر وزيغ القلوب عن الهدى ﴿وَقَد﴾ معناه التوكيد كأنه قال : وتعلمون علماً يقينياً لا شبهة لكم فيه.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥٣٠
٥٣١
قوله :﴿أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ﴾ أي اذكروا أني رسول الله أرسلت إليكم بالوصف الذي وصفت به في التوراة ومصدقاً بالتوراة وبكتب الله وبأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر ﴿وَمُبَشِّرَا بِرَسُولٍ﴾ يصدق بالتوراة على مثل تصديقي، فكأنه قيل له : ما اسمه ؟
فقال : اسمه أحمد، فقوله :﴿يَأْتِى مِنا بَعْدِى اسْمُه ا أَحْمَدُ ﴾ جملتان في موضع الجر لأنهما صفتان للنكرة التي هي رسول، وفي ﴿بَعْدِى اسْمُه ﴾ قراءتان تحريك الياء بالفتح على الأصل، وهو الاختيار عند الخليل وسيبويه في كل موضع تذهب فيه الياء لالتقاء ساكنين وإسكانها، كما في قوله تعالى :﴿وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ﴾ فمن أسكن في قوله :﴿مِنا بَعْدِى اسْمُه ﴾ حذف الياء من اللفظ لالتقاء الساكنين، وهما الياء والسين من اسمه، قاله المبرد وأبو علي، وقوله تعالى :﴿أَحْمَدُ ﴾ يحتمل معنيين أحدهما : المبالغة في الفاعل، يعني أنه أكثر حمداً لله من غيره وثانيهما : المبالغة من المفعول، يعني أنه يحمد بما فيه من الإخلاص والأخلاق الحسنة أكثر ما يحمد غيره.
جزء : ٢٩ رقم الصفحة : ٥٣١


الصفحة التالية
Icon