جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٥١
أي الغلبة والقوة ولمن أعزه الله وأيده من رسوله ومن المؤمنين وعزهم بنصرته إياهم وإظهار دينهم على سائر الأديان وأعلم رسوله بذلك ولكن المنافقين لا يعلمون ذلك ولو علموه ما قالوا : مقالتهم هذه، قال صاحب "الكشاف" :﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِه وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ وهم الأخصاء بذلك كما أن المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين، وعن بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه، والغنى الذي لا فقر معه، وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رجلاً قال له : إن الناس يزعمون أن فيك تيهاً قال : ليس بتيه ولكنه عزة فإن هذا العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر معه، وتلا هذه الآية قال بعض العارفين في تحقيق هذا المعنى : العزة غير الكبر ولا يحل للمؤمن أن يذل نفسه، فالعزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه وإكرامها عن أن يضعها لأقسام عاجلة دنيوية كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلها فالعزة تشبه الكبر من حيث الصورة، وتختلف من حيث الحقيقة كاشتباه التواضع بالضعة والتواضع محمود، والضعة مذمومة، والكبر مذموم، والعزة محمودة، ولما كانت غير مذمومة وفيها مشاكلة للكبر، قال تعالى :﴿بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الارْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ وفيه إشارة / خفية لإثبات العزة بالحق، والوقوف على حد التواضع من غير انحراف إلى الضعة وقوف على صراط العزة المنصوب على متن نار الكبر/ فإن قيل : قال في الآية الأولى :﴿لا يَفْقَهُونَ﴾ وفي الأخرى ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾ فما الحكمة فيه ؟
فنقول : ليعلم بالأول قلة كياستهم وفهمهم، وبالثاني كثرة حماقتهم وجهلهم، ولا يفقهون من فقه يفقه، كعلم يعلم، ومن فقه يفقه : كعظم يعظم، والأول لحصول الفقه بالتكلف والثاني لا بالتكلف، فالأول علاجي، والثاني مزاجي.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٥١
٥٥٢
﴿لا تُلْهِكُمْ﴾ لا تشغلكم كما شغلت المنافقين، وقد اختلف المفسرون منهم من قال : نزلت في حق المنافقين، ومنهم من قال في حق المؤمنين، وقوله :﴿عَن ذِكْرِ اللَّه ﴾ عن فرائض الله تعالى نحو الصلاة والزكاة والحج أو عن طاعة الله تعالى وقال الضحاك : الصلوات الخمس، وعند مقاتل : هذه الآية وما بعدها خطاب للمنافقين الذين أفروا بالإيمان ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَالِكَ﴾ أي ألهاه ماله وولده عن ذكر الله ﴿فَ أولئك هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ أي في تجارتهم حيث باعوا الشريف الباقي بالخسيس الفاني وقيل : هم الخاسرون في إنكار ما قال به رسول الله صلى الله عليه وسلّم من التوحيد والبعث.
وقال الكلبي : الجهاد، وقيل : هو القرآن وقيل : هو النظر في القرآن والتفكر والتأمل فيه ﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم﴾ قال ابن عباس يريد زكاة المال ومن للتبعيض، وقيل : المراد هو الإنفاق الواجب ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ أي دلائل الموت وعلاماته فيسأل الرجعة إلى الدنيا وهو قوله :﴿رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى ا أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ وقيل حضهم على إدامة الذكر، وأن لا يضنوا بالأموال، أي هلا أمهلتني وأخرت أجلي إلى زمان قليل، وهو الزيادة في أجله حتى يتصدق ويتزكى وهو / قوله تعالى :﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ قال ابن عباس هذا دليل على أن القوم لم يكونوا مؤمنين إذ المؤمن لا يسأل الرجعة. وقال الضحاك : لا ينزل بأحد لم يحج ولم يؤد الزكاة الموت إلا وسأل الرجعة وقرأ هذه الآية، وقال صاحب "الكشاف" : من قبل أن يعاين ما ييأس معه من الإمهال ويضيق به الخناق ويتعذر عليه الإنفاق، ويفوت وقت القبول فيتحسر على المنع ويعض أنامله على فقد ما كان متمكناً منه، وعن ابن عباس تصدقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت فلا تقبل توبة ولا ينفع عمل وقوله :﴿وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ قال ابن عباس : أحج وقرىء فأكون وهو على لفظ فأصدق وأكون، قال المبرد : وأكون على ما قبله لأن قوله :﴿فَأَصَّدَّقَ﴾ جواب للاستفهام الذي فيه التمني والجزم على موضع الفاء، وقرأ أبي فأتصدق على الأصل وأكن عطفاً على موضع فأصدق : وأنشد سيبويه أبياتاً كثيرة في الحمل على الموضع منها :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٥٢
(معاوى إننا بشر فأسجح)
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فنصب الحديد عطفاً على المحل والباء في قوله : بالجبال، للتأكيد لا لمعنى مستقبل يجوز حذفه وعكسه قول ابن أبي سلمى :
بدا لي أني لست مدرك ماضي
ولا سابق شيئاً إذا كان جاثياً
توهم أنه قال بمدرك فعطف عليه قوله سابق، عطفاً على المفهوم، وأما قراءة أبي عمرو فإنه حمله على اللفظ دون المعنى، ثم أخبر تعالى أنه لا يؤخر من انقضت مدته وحضر أجله فقال :﴿وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا﴾ يعني عن الموت إذا جاء أجلها/ قال في "الكشاف" : هذا نفي للتأخير على وجه التأكيد الذي معناه منافاة المنفي، وبالجملة فقوله :﴿لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلَادُكُمْ﴾ تنبيه على الذكر قبل الموت :﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم﴾ تنبيه على الشكر لذلك وقوله تعالى :﴿وَاللَّهُ خَبِيرُا بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي لو رد إلى الدنيا ما زكى ولا حج، ويكون هذا كقوله :﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ (الأنعام : ٢٨) والمفسرون على أن هذا خطاب جامع لكل عمل خيراً أو شراً وقرأ عاصم يعملون بالياء على قوله :﴿وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا﴾ لأن النفس وإن كان واحداً في اللفظ، فالمراد به الكثير فحمل على المعنى والله أعلم وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٥٢
٥٥٣


الصفحة التالية
Icon