المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي ﴿مِن تَفَـاوُتٍ ﴾ والباقون ﴿مِن تَفَـاوُتٍ ﴾، قال الفراء : وهما بمنزلة واحدة مثل تظهر وتظاهر، وتعهد وتعاهد، وقال الأخفش :﴿تَفَـاوُتٍ ﴾ أجود لأنهم يقولون : تفاوت الأمر ولا يكادون يقولون : تفوت، واختار أبو عبيدة :﴿تَفَـاوُتٍ ﴾، وقال : يقال تفوت الشيء إذا فات، واحتج بما روي في الحديث أن رجلاً تفوت على أبيه في ماله.
المسألة الثانية : حقيقة التفاوت عدم التناسب كأن بعض الشيء يفوت بعضه ولا يلائمه ومنه قولهم :(تعلق متعلق متفاوت ونقيضه متناسب)، وأما ألفاظ المفسرين فقال السدي : من تفاوت أي من اختلاف عيب، يقول الناظر : لو كان كذا كان أحسن، وقال آخرون : التفاوت الفطور بدليل قوله بعد ذلك :﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ﴾ نظيره قوله :﴿وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ﴾ (ق : ٦) قال القفال : ويحتمل أن يكون المعنى : ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت في الدلالة على حكمة صانعها وأنه لم يخلقها عبثاً.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٨٦
المسألة الثالثة : الخطاب في قوله :﴿مَّا تَرَى ﴾ إما للرسول أو لكل مخاطب وكذا القول في / قوله :﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ اْرجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا﴾.
المسألة الرابعة : قوله :﴿طِبَاقًا ﴾ صفة للسموات، وقوله بعد ذلك :﴿مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَـن ِ مِن تَفَـاوُتٍ ﴾ صفة أخرى للسموات والتقدير خلق سبع سموات طباقاً ما ترى فيهن من تفاوت إلا أنه وضع مكان الضمير قوله :﴿خَلْقِ الرَّحْمَـانِ﴾ تعظيماً لخلقهن وتنبيهاً على سبب سلامتهن من التفاوت، وهو أنه خلق الرحمن وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب.
المسألة الخامسة : اعلم أن وجه الاستدلال بهذا على كمال علم الله تعالى هو أن الحس دل أن هذه السموات السبع، أجسام مخلوقة على وجه الإحكام والإتقان، وكل فاعل كان فعله محكماً متقناً فإنه لا بد وأن يكون عالماً، فدل هذه الدلالة على كونه تعالى عالماً بالمعلومات فقوله :﴿مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَـن ِ مِن تَفَـاوُتٍ ﴾ إشارة إلى كونها محكمة متقنة.
المسألة السادسة : احتج الكعبي بهذه الآية على أن المعاصي ليست من خلق الله تعالى، قال : لأنه تعالى نفى التفاوت في خلقه/ وليس المراد نفي التفاوت في الصغر والكبر والنقص والعيب فوجب حمله على نفي التفاوت في خلقه من حيث الحكمة، فيدل من هذا الوجه على أن أفعال العباد ليست من خلقه على ما فيها من التفاوت الذي بعضه جهل وبعضه كذب وبعضه سفه، الجواب : بل نحن نحمله على أنه لا تفوت فيه بالنسبة إليه، من حيث إن الكل يصح منه بحسب القدرة والإرادة والداعية، وإنه لا يقبح منه شيء أصلاً، فلم كان حمل الآية على التفاوت من الوجه الذي ذكرتم أولى من حملها على نفي التفاوت من الوجه الذي ذكرناه، ثم إنه تعالى أكد بيان كونها محكمة متقنة، وقال :﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ﴾ والمعنى أنه لما قال :﴿مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَـن ِ مِن تَفَـاوُتٍ ﴾ كأنه قال بعده : ولعلك لا تحكم بمقتضى ذلك بالبصر الواحد، ولا تعتمد عليه بسبب أنه قد يقع الغلط في النظرة الواحدة، ولكن ارجع البصر واردد النظرة مرة أخرى، حتى تتيقن أنه ليس في خلق الرحمن من تفاوت ألبتة. والفطور جمع فطر، وهو الشق يقال : فطره فانفطر ومنه فطر ناب البعير، كما يقال : شق ومعناه شق اللحم فطلع، قال المفسرون :﴿هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ﴾ أي من فروج وصدوع وشقوق، وفتوق، وخروق، كل هذا ألفاظهم.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٨٦
٥٨٦
أمر بتكرير البصر في خلق الرحمن على سبيل التصفح والتتبع، هل يجد فيه عيباً وخللاً، يعني أنك إذا كررت نظرك لم يرجع إليك بصرك بما طلبته من وجدان الخلل والعيب، بل يرجع إليك خاسئاً أي مبعداً من قولك خسأت الكلب إذا باعدته، قال المبرد : الخاسيء المبعد المصغر، وقال ابن عباس : الخاسيء الذي لم ير ما يهوى، وأما الحسير فقال ابن عباس : هو الكليل، قال الليث :/ الحسر والحسور الإعياء، وذكر الواحدي ههنا احتمالين أحدهما : أن يكون الحسير مفعولاً من حسر العين بعد المرئي، قال رؤبة :
يحسر طرف عيناه فضا
الثاني : قول الفراء : أن يكون فاعلاً من الحسور الذي هو الإعياء، والمعنى أنه وإن كرر النظر وأعاده فإنه لا يجد عيباً ولا فطوراً، بل البصر يرجع خاسئاً من الكلال والإعياء، وههنا سؤالان :
السؤال الأول : كيف ينقلب البصر خاسئاً حسيراً برجعه كرتين اثنتين الجواب : التثنية للتكرار بكثرة كقولهم : لبيك وسعديك يريد إجابات متوالية.
السؤال الثاني : فما معنى ﴿ثُمَّ اْرجِعِ﴾ الجواب : أمره برجع البصر ثم أمره بأن لا يقنع بالرجعة الأولى، بل أن يتوقف بعدها ويجم بصره ثم يعيده ويعاوده إلى أن يحسر بصره من طول المعاودة فإنه لا يعثر على شيء من فطور.


الصفحة التالية
Icon