السؤال الثاني : أنه تعالى قال في النحل (٧٩) :﴿أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِى جَوِّ السَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّه ﴾ وقال ههنا :﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَـانُ ﴾ فما الفرق ؟
قلنا : ذكر في النحل أن الطير مسخرات في جو السماء فلا جرم كان إمساكها هناك محض الإلهية، وذكر ههنا أنها صافات وقابضات، فكان إلهامها إلى كيفية البسط، والقبض على الوجه المطابق للمنفعة من رحمة الرحمن.
ثم قال تعالى :﴿إِنَّه بِكُلِّ شَىْءا بَصِيرٌ﴾ وفيه وجهان الوجه الأول : المراد من البصير، كونه عالماً بالأشياء الدقيقة، كما يقال : فلان بصر في هذا الأمر، أي حذق والوجه الثاني : أن نجري اللفظ على ظاهره فنقول : إنه تعالى شيء، والله بكل شيء بصير، فيكون رائياً لنفسه ولجميع الموجودات، وهذا هو الذي يقوله أصحابنا من أنه تعالى يصح أن يكون مرئياً وأن كل / الموجودات كذلك، فإن قيل : البصير إذا عدي بالباء يكون بمعنى العالم، يقال : فلان بصير بكذا إن كان عالماً به، قلنا : لا نسلم، فإنه يقال : إن الله سميع بالمسموعات، بصير بالمبصرات.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٩٤
٥٩٥
اعلم أن الكافرين كانوا يمتنعون عن الإيمان، ولا يلتفتون إلى دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان تعويلهم على شيئين أحدهما : القوة التي كانت حاصلة لهم بسبب مالهم وجندهم والثاني : أنهم كانوا يقولون : هذه الأوثان، توصل إلينا جميع الخيرات، وتدفع عنا كل الآفات وقد أبطل الله عليهم كل واحد من هذين الوجهين، أما الأول فبقوله :﴿أَمَّنْ هَـاذَا الَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَـن ِ ﴾ وهذا نسق على قوله :﴿أَمْ أَمِنتُم مَّن فِى السَّمَآءِ﴾ (الملك : ١٧) والمعنى أم من يشار إليه من المجموع، ويقال : هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الله إن أرسل عذابه عليكم، ثم قال :﴿إِنِ الْكَـافِرُونَ إِلا فِى غُرُورٍ﴾ أي من الشيطان يغرهم بأن العذاب لا ينزل بهم.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٩٥
٥٩٥
أما الثاني فهو قوله :﴿أَمَّنْ هَـاذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَه ﴾.
والمعنى : من الذي يرزقكم من آلهتكم إن أمسك الله الرزق عنكم، وهذا أيضاً مما لا ينكره ذو عقل، وهذا أنه تعالى لو أمسك أسباب الرزق كالمطر والنبات وغيرهما لما وجد رازق سواه فعند وضوح هذا الأمر قال تعالى :﴿بَل لَّجُّوا فِى عُتُوٍّ وَنُفُورٍ﴾ والمراد أصروا وتشددوا مع وضوح الحق، في عتو أي في تمرد وتكبر ونفور، أي تباعد عن الحق وإعراض عنه فالعتو بسبب حرصهم على الدنيا وهو إشارة إلى فساد القوة العملية، والنفور بسبب جهلهم، وهذا إشارة إلى فساد القوة النظرية.
واعلم أنه تعالى لما وصفهم بالعتو والنفور، نبه على ما يدل على قبح هذين الوصفين.
[بم فقال تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٩٥
٥٩٦
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي : أكب مطاوع كبه، يقال : كببته فأكب ونظيره قشعت / الريح السحاب فأقشع، قال صاحب "الكشاف" : ليس الأمر كذلك، و(جاء) شيء من بناء أفعل مطاوعاً، بل قولك : أكب معناه دخل في الكب وصار ذا كب، وكذلك أقشع السحاب دخل في القشع، وأنفض أي دخل في النفض، وهو نفض الوعاء فصار عبارة عن الفقر وألام دخل في اللوم، وأما مطاوع كب وقشع فهو انكب وانقشع.
المسألة الثانية : ذكروا في تفسير قوله :﴿يَمْشِى مُكِبًّا عَلَى وَجْهِه ﴾ وجوهاً : أحدها : معناه أن الذي يمشي في مكان غير مستو بل فيه ارتفاع وانخفاض فيعثر كل ساعة ويخر على وجهه مكباً فحاله نقيض حال من يمشي سوياً أي قائماً سالماً من العثور والخرور وثانيها : أن المتعسف الذي يمشي هكذا وهكذا على الجهالة والحيرة لا يكون كمن يمشي إلى جهة معلومة مع العلم واليقين وثالثها : أن الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فيتعسف ولا يزال ينكب على وجهه لا يكون كالرجل السوي الصحيح البصر الماشي في الطريق المعلوم، ثم اختلفوا فمنهم من قال : هذا حكاية حال الكافر في الآخرة، قال قتادة : الكافر أكب على معاصي الله فحشره الله يوم القيامة على وجهه، والمؤمن كان على الدين الواضح فحشره الله تعالى على الطريق السوي يوم القيامة، وقال آخرون : بل هذا حكاية حال المؤمن والكافر والعالم والجاهل في الدنيا، واختلفوا أيضاً فمنهم من قال : هذا عام في حق جميع المؤمنين والكفار، ومنهم من قال : بل المراد منه شخص معين، فقال مقاتل : المراد أبو جهل والنبي عليه الصلاة والسلام، وقال عطاء عن ابن عباس : المراد أبو جهل وحمزة بن عبد المطلب وقال عكرمة هو أبو جهل وعمار بن ياسر.
البرهان الثاني : على كمال قدرته قوله تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٥٩٦
٥٩٦


الصفحة التالية
Icon