المسألة الثانية : ذكروا في حد الثواب أنه لا بد وأن يكون منفعة، ولا بد وأن تكون خالصة عن الشوائب، ولا بد وأن تتكون دائمة ولا بد وأن تكون مقرونة بالتعظيم، فالمعنى إنما يكون مرضياً به من جميع الجهات لو كان مشتملاً على هذه الصفات فقوله :﴿عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ كلمة حاوية لمجموع هذه الشرائط التي ذكرناها.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٢٩
٦٣٠
ثم قال :﴿فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾ وهو أن من صار في ﴿عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ أي يعيش عيشاً مرضياً في جنة عالية، والعلو إن أريد به العلو في المكان فهو حاصل، لأن الجنة فوق السموات، فإن قيل : أليس أن منازل البعض فوق منازل الآخرين، فهؤلاء السافلون لا يكونون في الجنة العالية، قلنا : إن كون بعضها دون بعض لا يقدح في كونها عالية وفوق السموات، وإن أريد العلو في الدرجة والشرف فالأمر كذلك، وإن أريد به كون تلك الأبنية عالية مشرفة فالأمر أيضاً كذلك.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٣٠
٦٣٠
ثم قال :﴿قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ﴾ أي ثمارها قريبة التناول يأخذها الرجل كما يريد إن أحب أن يأخذها بيده انقادت له، قائماً كان أو جالساً أو مضطجعاً. وإن أحب أن تدنو إلي فيه دنت، والقطوف جمع قطف وهو المقطوف.
[بم ثم قال تعالى :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٣٠
٦٣٠
والمعنى يقال لهم ذلك وفيه مسائل :
المسألة الأولى : منهم من قال قوله :﴿كُلُوا ﴾ ليس بأمر إيجاب ولا ندب، لأن الآخرة ليست دار تكليف، ومنهم من قال : لا يبعد أن يكون ندباً، إذا كان الغرض منه تعظيم ذلك الإنسان وإدخال السرور في قلبه.
المسألة الثانية : إنما جمع الخطاب في قوله : كلوا بعد قوله فهو في عيشة، لقوله :﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ﴾ ومن مضمن معنى الجمع.
المسألة الثالثة : قوله :﴿بِمَآ أَسْلَفْتُمْ﴾ أي قدمتم من أعمالكم الصالحة، ومعنى الإسلاف في اللغة تقديم ما ترجو أن يعود عليك بخير فهو كالإقراض. ومنه يقال : أسلف في كذا إذا قدم فيه ماله، والمعنى بما عملتم من الأعمال الصالحة : والأيام الخالية، المراد منها أيام الدنيا والخالية الماضية، ومنه قوله :﴿وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِى﴾ و﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ﴾ وقال الكلبي :﴿بِمَآ أَسْلَفْتُمْ﴾ يعني الصوم، وذلك أنهم لما أمروا بالأكل والشرب، دل ذلك على أنه لمن امتنع في الدنيا عنه بالصوم، طاعة لله تعالى.
المسألة الرابعة : قوله :﴿بِمَآ أَسْلَفْتُمْ﴾ يدل على أنهم إنما استحقوا ذلك الثواب بسبب عملهم، وذلك يدل على أن العمل موجب للثواب، وأيضاً لو كانت الطاعات فعلاً لله تعالى لكان قد أعطى الإنسان ثوباً لا على فعل فعله الإنسان، وذلك محال وجوابه معلوم.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٣٠
٦٣١
واعلم أنه تعالى بين أنه لما نظر في كتابه وتذكر قبائح أفعاله خجل منها وصار العذاب الحاصل من تلك الخجالة أزيد من عذاب النار، فقال : ليتهم عذبوني بالنار، وما عرضوا هذا الكتاب الذي ذكرني قبائح أفعالي حتى لا أقع في هذه الخجالة، وهذا ينبهك على أن العذاب الروحاني أشد من العذاب الجسماني، وقوله :﴿وَلَمْ أَدْرِ﴾ أي ولم أدر أي شيء حسابيه، لأنه حاصل ولا طائل له في ذلك الحساب، وإنما كله عليه.
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٣١
٦٣٢
ثم قال :﴿حِسَابِيَهْ * يَـالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ﴾ الضمير في إلى ماذا يعود ؟
فيه وجهان الأول : إلى الموتة الأولى، وهي وإن لم تكن مذكورة إلا أنها لظهورها كانت كالمذكورة و﴿يَـالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ﴾ القاطعة عن الحياة. وفيها إشارة إلى الإنتهاء والفراغ، قال تعالى :﴿فَإِذَا قُضِيَتِ﴾ (الجمعة : ١٠) ويقال : قضى على فلان، أي مات فالمعنى يا ليت الموتة التي متها كانت القاطعة لأمري، فلم أبعث بعدها، ولم ألق ما وصلت إليه، قال قتادة : تمني الموت ولم يكن في الدنيا عنده شيء أكره من الموت، وشر من الموت ما يطلب له الموت، قال الشاعر :
وشر من الموت الذي إن لقيته
تمنيت منه الموت والموت أعظم
والثاني : أنه عائد إلى الحالة التي شاهدها عند مطالعة الكتاب، والمعنى : يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضيت علي لأنه رأى تلك الحالة أبشع وأمر مما ذاقه من مرارة الموت وشدته فتمناه عندها. / ثم قال :
جزء : ٣٠ رقم الصفحة : ٦٣٢
٦٣٢


الصفحة التالية
Icon